سياسة صحف وآراء

لا دولة مستبدّة ولا ثورة هوجاء

*صقر أبو فخر

حين قرأنا كتاب لينين “الدولة والثورة” في أواخر سنة 1970 سُحرنا به، وسحرتْنا فكرة وجود مجتمع بلا دولة، أو دولة في طريقها إلى التلاشي، أي أن المجتمع هو الذي يدير شؤونه بنفسه بطريقة “التسيير الذاتي”. وهذا الكتاب الذي نشره لينين في 1917 خلاصة لمجادلته مع بوخارين، قادنا إلى قراءة كتب الفوضويين الأوروبيين، أمثال الروسي ميخائيل باكونين صاحب كتاب “الإله والدولة”، والفرنسي لوي أوغست بلانكي الفوضوي التآمري صاحب كتاب “النقد الاجتماعي”، وبيار جوزف برودون صاحب كتاب “ما هي الملكية؟” الذي أطلق فيه عبارته “الملكية سرقة”؛ هذه العبارة التي تحوّلت، لدى كثيرين، إلى شعار “أسرقوا الأموال المسروقة”. ومنذ استولى غيفارا على حواسّنا وعقولنا، وغمرها بأفكاره عن “البؤرة الثورية”، صارت كلمة “ثورة” المفتاح المقدّس لمعرفة طريقنا إلى المستقبل، حتى أن عبارات يومية، مثل “ثورة في عالم الأزياء” أو “ثورة في علم التجميل” أو “ثورة في صناعة مساحيق الغسيل” كانت تستوقفنا غريزيّاً. وبناء على تلك الدوافع والروافع، عُدنا إلى التاريخ العربي والعالمي لندرس ثورات البشرية: لماذا اندلعت؟ وما كانت غاياتها؟ ولماذا فشلت؟ وهل من الممكن استعادتها ولو في أحوال جديدة ومختلفة؟

وفي هذا السياق، قرأنا ثورة العبيد التي قادها سبارتاكوس، وثورة العبيد التي قادها يونوس، وثورة الزنج في البصرة وصاحبها علي بن محمّد، وثورة القرامطة بقيادة حمدان بن الأشعث الأهوازي (حمدان قرمط)، وصولاً إلى ثورة الفلاحين في ألمانيا بقيادة توماس مونتزر (1825)، وكومونة باريس في عام 1871، والثورة البلشفية في روسيا في سنة 1917. وجميع هذه الثورات فشلت في تحقيق أهدافها، مع أن الثورة البلشفية، على سبيل المثال، طال عمرها إلى نحو 70 عاماً. ثم غمرتنا الأحلام الثورية التي جعلتنا نعتقد أن ثورة ظفار عظيمة، وأن سياد بري في الصومال اشتراكي، وأن منغستو هايلا مريام في إثيوبيا بطل أممي، وأن بابراك كارمال، الذي يعني اسمه بالبشتونية “رفيق العمّال”، هو فيديل كاسترو عصره. وعلى هذا المنوال، قرأنا تمرّدات فلاحي بلاد الشام على مالكي الأراضي، مثل عامية زحلة في سنة 1825، وعامية أنطلياس التي قادها إسكافي جلف في سنة 1840 بدعم من البطريرك بولس مسعد ضد آل الخازن. وكذلك عامية جبل العرب التي اندلعت في سنة 1889 ضد آل الأطرش، وكانت معادية في بعض جوانبها للعثمانيين. … وبالطبع، كانت لتلك التمرّدات أسباب اجتماعية واضحة، ودوافع سياسية غير بعيدة عن مزاج السلطنة العثمانية آنذاك. ولم تفتقر تلك التمرّدات إلى مقادير متفاوتة من طلب العدالة أو تحسين الأحوال الاقتصادية السيئة. وبهذه العُدّة المعرفية الرومانسية غير العلمية، نظرنا إلى “جمهورية زفتى” المصرية، ورأينا فيها شكلاً من الصراع الطبقي، وهي لم تكن كذلك على الأرجح؛ تلك الانتفاضة التي اندلعت في 1919، ودامت 19 يوماً، واتجهت في عنفها نحو الإقطاعيين والإنكليز معاً، وامتدت نيرانها إلى المطرية والمنيا، وكانت تهدف إلى تحقيق بعض المطالب الاجتماعية ليس أكثر.

أمسيتُ اليوم، بعدما مضى بنا العمر، كلما سمعتُ كلمة “ثورة” أضع يدي اليمنى على مسدسي الافتراضي، لأن كلمة “ثورة” في بلداننا العربية كانت تعني، بلا ريب، محراك الشر، أي الحرب الأهلية. في الماضي، كانت ثورات التحرّر الوطني، من الجزائر إلى فيتنام وفلسطين، هي الأسمى والأرفع حضوراً ومهابة وتعظيماً. لكنني اليوم أجد نفسي منحازاً إلى فكرة الدولة العادلة، مهما تكن مواصفاتها، مع أن عبارة “الثورة” ما برحت تدغدغ مشاعري في كل يوم. أنا مع الدولة ليس نكاية بلينين المسكين أو بماركس أو هوشي منه، بل لأن بعض الثورات العربية القريبة والبعيدة أورثتنا الدمار والعثار والشنار والتدمير والقتل والكراهية والطائفية والعنصرية. أَليس هذا ما حصل في ليبيا واليمن والسودان وتونس ومصر بمقادير متفاوتة من الأهوال والبلايا؟ وكل ما نتطلع إليه، في هذا الميدان، أن تنجو سورية مما يكمن في الخفايا، وتنطلق نحو مستقبلها الزاهر بالرفعة والحرية والديمقراطية، والثبات على الموقف المناصر حقاً وفعلاً لفلسطين وقضيتها وشعبها.

… خلال الخمسين سنة الماضية، شهد العالم حركاتٍ سياسية ذات ميول ديمقراطية، كما شهد، في الوقت نفسه، انقلابات عسكرية مضادّة للديمقراطية. ومنذ ثمانينيات القرن المنصرم وتسعينياته، تسارعت عمليات التحوّل نحو النظم البرلمانية، خصوصاً في أوروبا الشرقية. وكانت تلك التحوّلات قد بدأت بخلخلة دول المنظومة الشيوعية، حين أُسست نقابة “تضامن” البولندية في سنة 1980. وشهدت بلدان كثيرة اندفاعة قوية نحو تعديل نظمها السياسية كي تصبح نظماً برلمانية، الأمر الذي كان يشير، ظاهريّاً، إلى انحسار ديناميات التسلّط، وإلى تقدّم ديناميات الديمقراطية والحريات العامة.

لنتذكّر بعض تلك الوقائع: في 1974 انهار الحكم العسكري في البرتغال، وفي 1974 سقط حكم الجنرالات في اليونان، وانتهى الحكم العسكري في إسبانيا في 1975 بعد وفاة الجنرال فرانكو. وفي 1983 سقط حكم الجنرال روبرتو فيولا في الأرجنتين، وكذلك الحكم العسكري في البرازيل بقيادة الماريشال كاستيلو برانكو في 1985، وأطاح الفريق سوار الذهب جعفرَ النميري في السودان في 1985، وعُزل فرديناند ماركوس من السلطة في الفيليبين في 1986، ولم يطل الأمر كثيراً حتى أُطيح الجنرال ضياء الحق عن الحكم في باكستان في 1988؛ وتلك الوقائع مجرّد عينة. لكن، في المقابل، وفي الحقبة ذاتها تقريباً، سقط سلفادور أليندي المنتخب ديمقراطياً في تشيلي في سنة 1973 على أيدي عساكر الجنرال الفاشي بينوشيه. وسقط الأسقف مكاريوس من رئاسة جمهورية قبرص في 1974، وانقلب الجنرال ضياء الحق على الرئيس ذو الفقار علي بوتو في 1977 وأعدمه، وأعاد انقلاب عسكري في السودان في 1989 الجيش إلى السلطة بعد سقوط الحكم المدني. وقائمة الانقلابات العسكرية طويلة جدّاً، ولا سيما في دول القارة الأفريقية.

حكاية الجيوش العربية وتدخلها في الشؤون السياسية حكاية طويلة جداً، تبدأ منذ أول انقلاب عسكري في العراق في 1936 (انقلاب بكر صدقي)، ولا تنتهي بانقلاب في تونس في 2021. وكنّا اعتقدنا بعد هزيمة 1967 أن دور الجيوش العربية في صنع السياسات قد بدأ يسير نحو الأفول بعد هزيمة الجيشين المصري والسوري، علاوة على الجيش الأردني، في تلك الحرب. لكن تلك الخلاصة لم تكن صحيحة إطلاقاً؛ فما زالت المؤسّسة العسكرية هي القوة الحاسمة في أي تغيير، لا القوى السياسية التي ترفع لواء الحريات والإصلاح والديمقراطية والتغيير. وهذا ما جرى بالفعل في تونس في سنة 2010، وفي مصر سنة 2013، وفي الجزائر في 1992، وفي السودان في 2021. وفي خضم تلك الأحوال والأهوال، نشأت متلازمات الخوف (سيندروم)، التي تشل الإرادة السياسية للناس، وتمنعهم من الاحتجاج وطلب العدالة والحريات مثل متلازمة غورباتشيف (1990)، أي الإصلاح الذي أدّى إلى الفوضى وإلى وصول بوريس يلتسين إلى السلطة، ومثل متلازمة الجزائر (1992)، أي الانتخابات الديمقراطية التي أدّى وقفها إلى حرب أهلية دامت عشر سنوات، ومثل متلازمة سورية (2011)، أي حركة احتجاجات شعبية ديمقراطية تحوّلت إلى حرب أهلية ذات روافع طائفية، ومثل متلازمة مصر (2013)، أي ثورة شعبية أدّت إلى صعود الإخوان المسلمين إلى الحكم وفشلهم في إدارة الدولة، الأمر الذي تسبّب في عودة الجيش إلى السلطة، ومثل متلازمة تونس (2019)، أي ثورة سمحت بوصول حركة النهضة إلى السلطة، وفشلهم في إدارة البلاد، فعاد جهاز الأمن إلى الحكم بواجهة مدنية، ومثل متلازمة السودان (2021)، أي ثورة ضد نظام يرأسه عسكري أدّت إلى إقصاء النظام، ثم أدّت التحولات اللاحقة إلى استعادة الجيش الحكم.

… السؤال اللجوج في خضم هذه المتلازمات المحبطة والمتسارعة: لماذا يتحوّل كل تحرّك ديمقراطي، في أحيان كثيرة، إلى سلطة غير ديمقراطية؟ وفاشية أحياناً؟ هذا ما جرى في شمال سورية حيث ينتشر مقاتلو “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، حيث لا ديمقراطية حقيقية لديهم ولا حتى رائحة الديمقراطية. وعلى غرار ذلك، يمكن احتساب الجماعات الطائفية في العراق كالحشد الشعبي والفصائل المذهبية المسلحة.

الثورات العربية، كما تلوح لي منذ نحو 14 سنة، لم تكن كما تصورها غيفارا أو تخيلها باكونين وبرودون وبلانكي، أو حتى كومونة باريس. ينطبق على بعضها وصف الشاعر الشهيد كمال ناصر: “الثورة هي أنثى الثور”. لذلك اقترحنا، في ما يشبه الأُملوحة، أن نستعيض عنها بكلمة “فتنة”، ومنها فاتن وفتون وفتّان بدلاً من الثوري والثائر… إلخ. وإخال أن الإصلاح المتدرج هو ما يلائم بلادنا؛ ففي دول أوروبا الشرقية تغيّرت الأنظمة بعملية إصلاحية متدرجة من فوق جرّاء الاحتجاجات التي اندلعت من تحت. وهذا التصوّر خاص بالعرب، ولا يقترن ألبتة بالوضع في فلسطين، ولا يقاربها قط، ففلسطين سياق آخر، ولا تنطبق عليه مقولات التغيير وبناء الدولة والحكم الديمقراطي، لأن قضية فلسطين هي قضية تحرّر وطني من الاستعمار الإحلالي أولاً وأخيراً.

… واليوم، بعد ما يقارب النصف قرن على أحلامنا بالثورة والحرية والاستقلال الوطني، ها أنا أوشكُ على ترداد قول الصديق الراحل آدم حاتم: أنا مع الشرطة، أي مع القانون والنظام والحرية في نطاق الدولة الديمقراطية العادلة، وضد الانعطافات غير المحسوبة التي تؤدّي، في كثير من الأحيان، إلى صدام الهويات والإثنيات والطوائف. ويبدو أن الأمثولة السورية الجارية الآن ربما تلاقي، في كثير من وجوهها، هذا التصور الاستنباطي، ولو في منتصف الطريق. وفي هذه الأحوال المملوءة بالقلق، ما علينا غير الانتظار والتبصّر، لعلنا نرى ونُبصر.

*نشرت في العربي الجديد يوم 14 كانون الأول / ديسمبر 2024

Leave a Comment