الخروج من البيت بعد ساعات من وقف إطلاق النار، كأنه حياة أخرى، شعور بولادة جديدة، شيء من انتصار الحياة، بغض النظر عن ترهات الخطاب السياسي وأوهامه ومعادلاته. وقف الحرب هو تحرّر من أثقال الخوف ورعب الاستهدافات.
الخروج من البيت هو نوع من اطمئنان على حال الدنيا، تحسّس للعروق أنها ما زالت تنبض، محاولة لنسيان شهرين مروا كأنهما الدهر. الوصول إلى بيروت، يجعل المرء تلقائياً يجرّب الاطمئنان على بعض الأصدقاء والمشهد العام والتبدلات التي حصلت والسيارات التي كانت مكدّسة في كل مكان. ينظر إلى بعض المباني المستهدفة والمدمّرة. إنها مرآة الحرب، تعكس صورتها وتوحشها، الحرب تصنع صورتها، تفتك بتلاوين الأشياء والمعاني والأحلام، تأخذ أركيولوجيا المدينة إلى الرماد والغبار. لا ضرورة للكثير من الكلام الصور الكثيرة تحكي.
وقف إطلاق النار وانتقال لبنان في ساعات من الحرب إلى السلام، من الرعب إلى الحياة، مشهد سوريالي في بلد سوريالي. ذلك أن اللبنانيين دائماً يصنعون مظاهرهم العجيبة. في الحرب كانوا يتنافسون على تصوير المباني المستهدفة بهواتفهم النقالة، رغم المخاطر. في السِّلم، يتسابقون على إطلاق النار، كل على طريقة، منهم من يعلن انتصاره فوق الركام، ومنهم يخبر عن عودته إلى بيته.
العودة من بيروت نحو صيدا، والدخول وسط زحمة العائدين إلى الجنوب، مشهد يشبه نهر الحياة بعد أيام الدم والموت والغبار والروائح والدمار والهلع. رايات وعلامات نصر تلقائية وفرش اسفنجية على أسطح السيارات وفي الشاحنات، وتبضع من المحال التجارية كأن العائلات في رحلة جديدة. كل يحمل حكايته عائداً، لا يعرف ماذا سيجد في مناطق انقلبت رأساً على عقب، طُحنت بالبارود والنار. كل ستظهر حكايته بعد أيام، وسيكتب ذاكرته للأيام.
أحسب أن قلّة من الناس، كانت مهتمّة ببنود ومندرجات وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، ومعزوفة مَن ربح ومَن خسر، ومَن فشل ومَن هُزم. كان الهمّ الأول والأساس وقف إطلاق النار بذاته، والنجاة من الركام والموت المحتملَين. كان المشهد حبس أنفاس ودموع ولحظات رعب، الناس في لحظات الإعلان عن وقف إطلاق النار، كأنها خارجة من حبس ضيق، من حياة في علبة سردين.
أعرف أن شعور الفرح بوقف سقوط القنابل والصواريخ، سيليه لدى الكثيرين صدمة بخسارة البيت أو المنزل أو الحارة. الشعور لن يكون سهلاً ولن يكون فداء لأحد. إنه شقاء العمر فعلاً، ولن يكون سهلاُ تعويضه. الأمر لا يقتصر على الشقة والمنزل، بل المساجد وبعض الكنائس والأسواق القديمة والآثار التاريخية والأمكنة الحميمة العابقة بالحكايات والذكريات والكلمات، وتزداد وطأة الخسارة مع فقدان الأحبة والأهل والأصدقاء تحت الركام. آلاف الشبان والعائلات سقطوا في الحرب.
لم أكن نازحاً، ولم يخلُ محيط البلدة التي أسكنها من غارات ومجازر. في مكان ما، مثل غيري، كنتُ متوجساً ومحاصَراً بين أربعة جدران، ناسياً الزمن. تشرق الشمس وتغيب، ولا أنتبه، محدقاً في شاشة التلفزة مثل ملايين اللبنانيين، “أعيشُ مُحاطًا بكلّ هؤلاء الذين جعلوني وحيدًا” بحسب قول عباس بيضون. شهران كانا كافيَين لاهتراء الأعصاب، لضياع الزمن أكثر من ضياعه. كان يكفي دوي جدار الصوت اليومي لشَتم الكون، نشرات الأخبار، غلاة البرامج الحوارية، أفيخاي أدرعي، الحديث عن أسعار الشقق، انتهازيو الفرص، معشر بعض الفسابكة، تحف عبد الحميد بعلبكي، منشية بعلبك، المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية، سوق النبطية، قلعة شمع، مساجد شقرا، تبنيت، مارون الراس..
انتهى العدوان الإسرائيلي على لبنان، وبات توجسنا من المناكفات الداخلية. بالتأكيد، تأرجحت الاصطفافات وتبدلت التوجهات، ولم تعد الأجواء التي كانت قبل الحرب موجودة… لكننا في لبنان.
* نشرت بتاريخ 27ىتشرين الثاني 2024
Leave a Comment