الحديث عن قيام لبنان الجديد بيد إسرائيلية، هو وهمٌ يتوجب الكف عن التفكير فيه. لن يكون لدى الآخرين وقت للبكاء على لبنان، إن لم تدمع عيون سياسييه له!
أوهام لبنانية أو بالأحرى أوهام بعض اللبنانيين؛ فبعضهم يرى أن عودة لبنان دولة “مستقلة ذات سيادة” ربما تحدث بإرادة إسرائيلية، ذلك وهم، فإسرائيل تريد أن تُبعد سلاح “حزب الله” عن حدودها الشمالية فقط لا غير، بالنسبة لها لبنان مقسّم بين فئاته السياسية، ومتناحر، وضعيف ووضعه الاقتصادي متردٍ. هي أخبار طيبة في تل أبيب، حيث كونه حراً ومستقلاً وقوياً اقتصادياً يعني النقيض لمشروعها، حيث يكون هناك خيار ناجح لتعددية، فشلت إسرائيل فيها، فالحديث عن دور لقيام لبنان الجديد بيد إسرائيلية، هو وهمٌ يتوجب الكف عن التفكير فيه.
الوهم الثاني أن يستطيع فريق لبناني تحرير جزء يسير من فلسطين، هو وهمٌ كبير آخر، فكل إمكانيات ذلك الفريق متواضعة جداً أمام الإمكانيات الإسرائيلية التقنية والعسكرية والدعم الأميركي غير المحدود، وقد ثبت تكرار تلك الحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها البعض. والتوقع الأكثر قرباً إلى الواقع، أن تُفرض تسوية، يتراجع فيها سلاح “حزب الله” إلى ما بعد نهر الليطاني، وتبقى الحدود الشمالية لإسرائيل آمنة.
في هذه الحالة، فإن القول باحتفاظ الحزب بسلاحه من أجل خوض “تحرير فلسطين” هو قول لن يصدّقه غير الحمقى والمخدّرين بالايديولوجيا. قبول الحزب التراجع إلى شمال الليطاني (والذي سوف يتمّ في الأسابيع المقبلة) يعني عدم نفع السلاح لصدّ إسرائيل، كما لم ينفع في إنقاذ قادة الحزب من الاستهداف! كل ما سوف يحدث، أن هذا السلاح سوف يوجّه للداخل اللبناني، وبالتالي العجز الكامل عن قيام الدولة المستقلة ذات السيادة!
قد يرى البعض، أيضاً من الحالمين، أن مشكلة لبنان هي خارجية. قد يكون ذلك عاملاً ثانوياً ولكنْ صغير في الديناميكية اللبنانية. مشكلة لبنان هي داخلية في المقام الأول، فهناك من يعتقد في النسيج اللبناني ذي الألوان المختلفة، أن لونه يجب أن يسود، وإذا امتلك السلاح فهو يسود بالقوة، ذلك أحد الأوهام، والتي تتناقل بين الفرق اللبنانية بين فترة زمنية وأخرى.
الحلول الواقعية في لبنان هي عودة الجميع إلى الدولة، وهناك قواعد قانونية، منها الدستور اللبناني واتفاق الطائف، من بين قواعد أخرى، يكون فيها الجميع تحت ظل الدولة، دون تغوّل طائفة على أخرى، وتحالف انتهازي يحصل فيه الفريق الغالب على امتيازات شكلية موقتة.
في السنوات الأخيرة تحالف “التيار الوطني الحر” مع “حزب الله”، و شكّلا فريق “قوة قاهرة” نتج منه وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، ولكن ماذا تمّ بعدها؟ “فشل كامل للدولة اللبنانية” إلى درجة أنه في آخر شهور ذلك العهد، قال عون “لبنان ذاهب إلى جهنم”، ولم يعترف أن الطريق إلى ذلك المكان كان من صنع يديه، لقد همّشت القوى اللبنانية الأخرى (عدا الحزبين “حزب الله” والتيار) فتدهور الوضع في لبنان إلى الإفلاس، ثم انتهى بحرب مدمّرة كما نشاهد.
دون توافق لبناني بجميع ألوان المجتمع السياسي والاجتماعي والفئوي، على قاعدة القوانين السارية، والدستور القائم، والقدرة على إدارة التنوع ، مع احترام للقانون الدولي، لن تقوم للبنان قائمة، وسوف يظل “دولة فاشلة” تتناهبها الميليشيات، ويغوص في تدهور اقتصادي، اجتماعي دون قاع.
قيمة لبنان في قدرته على العيش المشترك بين المكونات الاجتماعية فيه، دون أن يتقوّى مكوّن على آخر بحفظه للسلاح، واجتياح المدينة الجميلة بيروت متى ما عنّ له ذلك.
لذلك، من الشجاعة السياسية اليوم أولاً ترك تلك الأوهام، وثانياً البعد عن الإنكار الذي صاحب “الانتصارات اللفظية” في إعلان كسب الحروب. لبنان يستطيع أن يكسب الكثير بالسلام لكل اللبنانيين، أفضل مما يفعل فريق في الحرب! لقد خاض ما يكفي من الحروب، وتعرّض شعبه لما يكفي من الأوجاع، وانهار اقتصاده كما لم يفعل أي اقتصاد في العالم منذ قرن ونصف، وبالتالي فإن المكابرة، والحصول على الامتيازات الضيّقة، لا تخلق وطناً ، ولا حتى الارتهان إلى الخارج، مهما زُيّن هذا الارتهان بالشعارات.
المهم أن لا تطول مرحلة الإنكار من الجميع، وأن يتراضى الجميع لإنقاذ أولاً أنفسهم، وثانياً لبنانهم، فلن يكون لدى الآخرين وقت للبكاء على لبنان، إن لم تدمع عيون سياسييه له!
* نشرت في جريدة النهار بتاريخ 26 تشرين الثاني 2024
Leave a Comment