ثقافة صحف وآراء

”الخُلد“ الجديد.. ما معنى صعود اليسار عالمياً؟ 

  عقيل سعيد محفوض*

على الرغم من هزيمته أمام الليبرالية، وكل حملات التشويه فائقة الإعداد والإصرار والتمويل، إلا أن اليسار ما يزال حاضراً، ويبدو أنه يكتسب حضوراً متزايداً نسبياً حول العالم، وكلمة “اليسار” لا تزال تمتلك قوة تعبيرية ومخيالية للدلالة على قوة الطبقات والشرائح الاجتماعية المهمشة والمستضعفة، والتطلع لحياة أكثر عدالة، وتوزيع أكثر توازناً للثروات داخل المتجمعات والدول من جهة، وفيما بين المجتمعات والدول من جهة أخرى. 

جذور عميقة

 هذا ما يظهر من صعود قوى اليسار في أمريكا اللاتينية، وهي ظاهرة تاريخية بالمناسبة وليست طارئة. إذ ان لليسار جذور عميقة وإرث طويل هناك. ويظهر شيء من ذلك، ولو أنه لا يُقارن من حيث الحجم والقوة، في جنوب آسيا، مثل سريلانكا، التي فاز فيها زعيم شيوعي (ماركسي-لينيني) في انتخابات الرئاسة (أيلول/سبتمبر 2024)، والهند، التي يُحقّق الشيوعيون فيها مكانة مهمة على مستوى بعض الولايات. وعاد اليسار للصعود في بعض بلدان وسط وشرق أوروبا، وحتى فرنسا نفسها كما أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية (تموز/يوليو 2024). 

ظاهرة قارية! 

وإذا كان اليسار ظاهرة إقليمية أو قارية، باعتبار صعوده في أمريكا اللاتينية، إلا أنه لم تظهر مؤشرات على “طابع عالمي” له، سواء بمعنى الخطاب أو التشبيك والتنسيق والتنظيم العالمي، أو تشكيل”جبهة عالمية“، أو اقتراح “أجندة للعالم”. لا شك أن ثمة صياغات ومحاولات في هذا الإطار إلا أنها لم تتخذ طابعاً أو حضوراً عالمياً بعد. 

في السؤال

 لكن هل يجب أن تظهر حركة عالمية مُنظّمة لليسار حتى يكون اليسار يساراً، مناسباً للأفكار والمدارك والصور النمطية عنه كما كان العالم يعرفه قبل عدة عقود، وحتى يكون بديلاً عالمياً موازياً، حتى لا نقول مقابلاً أو مناهضاً لـ الليبرالية؟ وهل يجب أن يقوم تنظير كامل الأوصاف لما يحدث يُدرجه وفق تصورات وأطر معروفة أو مطلوبة سلفاً؟ وماذا يحدث لو أن اليسار في أمريكا لم يحقق الشروط المعرفية والسلوكية والسياساتية لما نُعدّه يساراً كما نعرفه أو يعرفه العالم؟ 

الخلد الجديد 

للمفكر البرازيلي “أمير صادر” كتاب بعنوان “الخُلد الجديد”. يتحدث فيه عن اليسار في أمريكا اللاتينية. يُشَبِّه صادر فواعل اليسار أو فواعل التغيير تلك بـ”الخلد”، الذي يحفر تحت الأرض، ويمكث فيها طويلاً، ثم أنّه يظهر فجأة فوق الأرض، قوةَ تغير اجتماعي وسياسي، وأحياناً ما يقلب المشهد، انتخابياً هذه المرة، وليس ثورياً بالمعنى الذي كان ملازماً لليسار في نسخه الماركسية-اللينينية. ولو أن لليمين “خلده” و”حفاروه” و”قوته” الاجتماعية والسياسية أيضاً.

 الفارق أن “الخلد” هنا يحيل إلى قوةِ ما يتخذ معنى اليسار، أو ما يفكر ويتحرك في أفق التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي والقيمي، الذي يستجيب لنداءات المعنى والقوة لدى الشرائح والطبقات الاجتماعية التي تمثل التيار العريض في مجتمعات أمريكا اللاتينية. ولو أن الظاهرة تتطلب المزيد من التحليل سواء في أمريكا اللاتينية نفسها أو غيرها من مناطق العالم.

 تمكن “الخلد الجديد” من أن يعيد عناوين وخطوط الصراع الاجتماعي إلى “اليسار-اليمين” في أفق اجتماعي-اقتصادي. وهذا لا يُذكّر فقط بأوليات الصراع الاجتماعي من منظور ماركس أو في أفقه وأطيافه وتأويلاته، وإنما يفتتح موجة جديدة من التنظير والبحث في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والسياسية، “يسارية الطابع”، إن أمكن التعبير، أيضاً.

 في أفق الليبرالية

 لكن المفارقة، أن ذلك لا يخرج عن أفق الليبرالية التي تحكم العالم اليوم، وهو أقرب لتحديات داخل نطاق هيمنتها، وعَرَض من أعراض أزمتها في مجتمعات الأطراف، ولا يمثل “بديلاً” لها، بما في ذلك الاجتهادات والتنظيرات التي قام بها باحثون مثل الفرنسيان “آلان باديو” و”جيل دولوز”، والفرنسية “شانتال موف” والأرجنتيني “ارنسوتو لاكلاو”؛ الأخيران يُركّزان على “شعبوية اليسار”. وهذا باب يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق، وبأقل قدر ممكن من الأدلجة، إن أمكن ذلك حقاً! 

وقد انشغل العالم لبعض الوقت في تنظيرات وأدلوجات “نهاية التاريخ”، بوصفها تعبيراً عن ذلك “الانتصار النهائي” لـ الليبرالية والرأسمالية، وبروز عالم جديد لا مكان فيه لليسار والاشتراكية؛ انظر دعاوى أو بيان الانتصار في كتاب “فرانسيس فوكوياما” بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، ولو أن الرجل عدل لاحقاً عن بعض تقديراته أو مزاعمه، قائلاً إن ما يحدث “ليس نهاية التاريخ”.

 ماركس مرجعيةً وأفقاً

 يقول “أمير صادر” إن الخِلد “حيوان لطيف يُنقّب بدأبٍ الأنفاقَ في الأرض ثم يكسر القشرة، على نحو هو الأقل توقعاً، ويخرج فوق الأرض. إن نشاطه الباطني، والأهم انتفاضاته الفجائية، جعلت من البهيمة الصغيرة الوقحة رمزاً للثورة في القرن التاسع عشر”. 

وكـ”يساري”، لا يستطيع إلا أن يؤصل تشبيهاته ويعود فيما يفكر ويقرأ ويُحلّل ويُنظِّر، إلى مرجعياته الكبرى، وبخاصة ماركس، يضيف “صادر”: “استَشهد ماركس في “١٨ برومير” بعبارةٍ من “هاملت” لتحية جهود الحيوان المذكور: “أحسنت حفراً، أيها الخلد الحبيب”. [شكسبير، هاملت الفصل 1 المشهد 5].

فواعل خلدية

 يُركّز “أمير صادر” على “جِرَاء الخلد” التي برزت كقوة اجتماعية وسياسية في أمريكا اللاتينية، يسارية الهوية والمرجعية أو يسارية السمة والطابع، أي أن منها ما هو “تعديلي” أو “هجيني”، والتعبير هنا ليس قدحياً، لكنه يُحيل إلى حدث مفاجئ، كونه جاء مخالفاً للنمط في العالم الذي حكمته (أو هيمنت عليه) الليبرالية المنتشية بـ”انتصارها النهائي” على اليسار في العالم، ولكنها ما تزال تشهر بالتهديد، وتتقصى أي مصادر محتملة بهذا الخصوص. 

تلك الفواعل “الخُلدية” التي تتسم بالهمة والقوة والثبات، لكن أيضاً بالصمت والتخفي. ولو أنها لا تبقى كذلك على طول الخط، بل إنها تعد العدة، وتقوم بما يلزم. ثم لا تلبث أن تظهر فجأة، بكل ما لديها وكل ما أعدت من قوة. وأخذت تُحرّك المجتمع وتُغيّر أنماط القيم واتجاهات الوعي والتفكير والفعل السياسي والاجتماعي، بشكل مفاجئ بالفعل، ولا منوال حاضراً تتمثله أو تسير على خطاه، وبالطبع لا فواعل عالمية تدعمه أو تسعى لدفعه والاستثمار فيه. 

قوة لا متوقعة

 يخرج “الخلد” من باطن الأرض كـ”قوة لا متوقعة” من حيث النمط والأسلوب أو الكيف، ومن حيث الزمن، ولو أنها متوقعة على العموم، لكن ليس في مكان وزمان أو نمط بعينه، لكن اللا متوقع ليس ميتافيزيقياً، ولا محض صدفة أو فعلاً من دون فاعل، أو فعلاً من دون مُحددات ومُقدمات وأسباب في الواقع؛ يأتي اللا متوقع ليس من خارج الواقع، وإنما من خارج الوعي العياني واليقيني به، اللا متوقع هو هنا التحقق الواقعي لأحد الممكنات أو الاحتمالات التي كانت قابعة في حيز الإمكان إنما خارج الوعي اليقيني به. وبالتالي فإن ما حدث هو متوقع أو واقعي من حيث أنه نتيجة الحركية الاجتماعية والضغوط المخيالية والآمال لدى الشرائح المستضعفة وفواعل التغيير الاجتماعي والسياسي.  

نقاط القوة هي نقاط الضعف

  • يصعد اليسار تحت عناوين وتحالفات ديموقراطية اجتماعية، هذا مؤشر قوة لجهة: القدرة على المراجعة والتغيير، تشكيل تحالفات واسعة والقدرة على التوصل إلى تفاهمات مؤثرة، ونقطة الضعف، هي أن الصعود الانتخابي قد لا يعكس بالضرورة صعوداً اجتماعياً وسياسياً، وقد لا يُوصل إليه.
  • اليسار من حيث الخطاب والصعود الاجتماعي والجماهيري غير المنسجم أو المتماسك أيديولوجياً، ولكن المحكوم بديناميات وإكراهات لا حيلة له تجاهها.
  •  افتقار النظام العالمي لإمكانية تحرير فضاء غير ليبرالي أو لا ليبرالي، والافتقار لتصور أو نموذج أو منوال، إلخ.. 
  • والأهم أن حكم اليسار هو حكم انتخابي، محكوم بلعبة الانتخابات واتجاهات الكتلة الناخبة، وهي قلقة وهشة ومن الصعب التنبؤ بسلوكها وعرضة لتأثيرات وتدفقات مهولة، وهذا لا يُمكّن اليسار الذي وصل إلى الحكم، من أن يكون يساراً حاكماً حقاً. صحيح أن اليسار يصل إلى الحكم، إلا أن المجتمعات والدول لا تبدو محكومة يسارياً!
  •  يسار يخرج من عباءة ماركس، إما في مقابلها أو يتوالد منها، لكنه لا يتحرر منه بالتمام بل يبقى مشدوداً إليه. اليسار خروج مستمر عن النمط، رفض مستمر للواقع وللأنماط والمدارس والأحزاب والمواقع. كل استقرار هو ضد معنى اليسار. وهكذا فإن اليسار روح ومنظور أكثر منه إيديولوجيا أو مؤسسة، على ما يقول “دولوز”. 

في الختام،

 ثمة حفر في الأرض من أجل “تدبير” و”تثوير” البشر، والعمل على “إعادة توزيع” الموارد والإمكانات والثروات، ما فوق الأرض وما تحتها. قد تضطر لـ”الحفر في الأرض”، من أجل أن “تُصحّح ما فوقها”، لكن هذا “الفوق” أو “ما فوق” الأرض هو ساحة صراع كبرى، ليس من المتوقع أن يُحقّق أي طرف انتصاراً نهائياً فيها. ولعل الدلالة الأهم لحدث اليسار في أمريكا اللاتينية، وإصراره على العودة بعد كل انتكاسة أو خسارة، أن اليسار ما يزال يُمثّل قوة تغيير وتحريك وتحرير اجتماعي واقتصادي وثقافي وقيمي، لا مثيل لها ولا بديل لها في العالم، حتى الآن.

  *  كاتب وأستاذ جامعي، سوريا
*  نشرت بتاريخ 18 تشرين الثاني 2024 على  موقع | 180Post

Leave a Comment