صحف وآراء مجتمع

 ليست الحرب على لبنان خسارة لفريق وربحاً لآخر

 * طارق متري

في حربه على غزة، كما في حربه على لبنان، كثيراً ما يحرف بنيامين نتنياهو الأنظار عن أهدافه الفعلية، ومنها ما يعتقد أنه ثابت وما يظهر أنه متغيّر. ويخاطب الرأي العام في إسرائيل، وفي الدول الحليفة لها أو المحرجة حيالها، بما يؤيّد النظر إلى عمليات جيشه العسكرية بوصفها دفاعاً عن النفس، لا مزيجاً من هوى الإنتقام وغطرسة القوة. ونجده غالباً ما يشدّد على أن الحرب ضد حماس وحزب الله، رغم أهميتها بذاتها، ليست إلّا جزءاً من مواجهة أوسع لأكبر خطر وجودي على إسرائيل مصدره إيران. وهو جعل من أعدائه في فلسطين ولبنان مجرّد وكلاء لإيران. وبفعل رواج هذه السردية، تطغى التمثلات الشائعة، في الغرب وعندنا، لأولية الصراع مع إيران على حقيقة أن الحرب على غزة هي ضد الفلسطينيين ومحاولة للقضاء على مشروع استقلالهم الوطني وأن الحرب على لبنان ليست مجرّد صراع بالواسطة، يهدف إلى القضاء على حزب الله من حيث هو أبرز وكلاء إيران.

وفي الدول الغربية، وفي بعض الدول العربية، وبحسب بعض اللبنانيين أيضاً، كثيراً ما ترى الحرب عندنا بصورة مواجهة بين إسرائيل وحزب الله، وكأن بلدنا أرض منازلة أو ساحة قتال لا أكثر. ولا يخفى على أحد أن وصف لبنان ساحة لنزاعات الآخرين ليس جديداً، فهو يأتي من ذاكرة مجروحة تستعيد واقعاً أليماً سبق له أن برّر هذا الوصف. صحيح أن لبنان عرف في تاريخه الحديث إضطرابات ونزاعات عزّزت الاعتقاد لدى البعض أن القوى الداخلية، المسلحة منها بوجه خاص، تعمل لحساب دول وقوى خارجية، وأن الأخيرة تتواجه وكالة في لبنان. لكنه صحيح أيضاً أن لبنان لم يكن مرة مجرد حقل تدخل وانفجار حروب الآخرين على أرضه. ففي الأعم الأغلب كان اللبنانيون أطرافاً فاعلة في تلك الحروب، وإن تفاوتت أدوارهم في الصراعات داخل بلادهم وعليها. وممّا زاد في لبننة الحروب، على اختلاف أنواع التشابك بين الداخلي والخارجي، هو أن اللبنانيين، أيّاً كان من حجم مشاركتهم فيها، كانوا جميعاً ضحاياها.

واليوم، تدور الحرب في نواح كثيرة من لبنان، ويتزايد عدد الضحايا بين المدنيين، وتدمّر قرى وأحياء لبنانية من كل لون، ويعتدى على مدن وبلدات كصور وبعلبك وشمع هي في قلب هوية لبنان التاريخية، وتقع تبعات التهجير والاستضافة على كاهل الجميع. ويبيّن ذلك أن الحرب ليست على حزب الله وحده بل على لبنان واللبنانيين أيضاً، لا بفعل آثارها فحسب، بل في ضوء أهدافها ومآلاتها المحتملة أيضاً. وهي إن أرادت “تغيير وجه لبنان”، حسب ما قاله رئيس وزراء إسرائيل غير مرة، تكون حرباً على لبنان لا على حزب الله ومؤيّديه دون سواهم. ويعني ذلك أن نجاح اللبنانيين في الحؤول دون سقوط بلدهم في هاوية الإحتراب الداخلي، أفشلوا أهداف الحرب عليه.

لهذا السبب، لا يبدو اللبنانيون وكأنهم متفرّجون على حرب تدور على أرضهم ينتظرون نهايتها ليستأنفوا حياتهم، وكأنها غيمة سوداء مرّت فوق رؤوسهم. ثم أن معظمهم، مهما بلغت الخلافات السياسية بينهم من الحدّة، ورغم معارضة الكثيرين منهم حزب الله في مجازفته بجرّ لبنان إلى حرب لم يريدوها، ليس واثقاً من أن أي خسارة له هي بالضرورة ربح لهم، ولا يحسب إسرائيل محرّرة، كما زيّن للبعض في أزمنة وظروف سابقة. ولعلّ أكثرية اللبنانيين تعرف، أو ترجّح، أن إسرائيل ليست صديقة لأحد منهم، بل تزدري باللبنانيين جملة، وهي تتحدث باستمرار عن “المستنقع اللبناني” و”الوحول اللبنانية” متأثرة بتجارب الماضي، وأهمها ما جرى عام 1982 وبعده، تلك التجربة التي اكتوى اللبنانيون أيضاً بنارها.

بطبيعة الحال، يدعو كل ذلك إلى إجماع اللبنانيين في العمل من أجل وقف العدوان على بلدهم من دون الظن، جهاراً أو ضمناً، أن إطالة الحرب مكسب لفريق ضد فريق. ويدعو أيضاً إلى الإئتلاف حول أهداف، تتسامى فوق العداوات الداخلية، حفاظاً على لبنان ودرء مخاطر تفكّكه وانهياره. ويتطلب ذلك إحجاماً عن الاستعجال في الأحكام القطعية بشأن ما هو متوقع أو مرغوب، وتعليقاً مؤقتا للخلافات التي تكاد تطال نواحي الحياة كلها. فلا يكون الإنقسام قدراً محتوماً، وتغيير علاقات القوى بشكل جذري شرطاً لخروج لبنان سالماً من تحت الركام. ولأجل ذلك، ومهما بدا الأمر صعباً، نحتاج، في زمن الحرب أكثر من زمن السلم، إلى خطوات جريئة لبناء الثقة المفقودة، أو بعضها، بين المتخاصمين والمشكّكين دائماً بنوايا بعضهم. ولا يضرب بناء الثقة صفحاً عن الخلافات والأخطاء المتبادلة ولا يلغي التناقضات في الرؤى والمصالح. إلّا انه خيار أخلاقي وخيار الضرورة، يمهّد للتفكر المشترك في سبل التخفيف من قساوة الأيام الآتية، بما يحرّرنا من أوهام الغلبة المستعجلة والظن الساذج أن نتائج الحرب ستيسّر حل المشكلات الكثيرة.
ويقتضي بناء الثقة، أو بعضها، الإبتعاد عن الشماتة وتحميل الضحايا مسؤولية ما أصابهم، وعن استعادة السجالات العقيمة، وعن إثارة التوجس الطائفي، وعن التهويل والتخويف والتخوين. ربما كان كل ذلك صعب التحقيق.
لقد ابتعد عدد غير قليل من اللبنانيين عن كل ما يأخذنا نحو الصدام الأهلي مهما انخفضت حدّته. وأدركوا، على نحو تلقائي، أننا في زمن التضامن الوطني والأخوة الإنسانية. وعسى أن يكون فيهم، للسياسيين والنخب والإعلاميين، أسوة حسنة.

*  وزير خارجية سابق ووزير الثقافة سابقاً.

* نشرت على موقع المدن الالكتروني بتاريخ 21 تشريت الثاني 2024.

Leave a Comment