مجتمع

عن النزوح القاسي

ليلى مروة

 بعلبك 8 تشرين الثاني 2024 ـ بيروت الحرية

ما كنتُ أتصورّني أنني سأكتب عن النزوح يومًا، عن خروج  النّاس القاهر والقسري من بيوتهم، تلك البيوت التي هي الأمن والمسكن والسكينة والسُكن، تلك المساحة التي يجد كل فرد فيها نفسه وذاته، هذه البيوت التي تشبه أصحابها، بيوت مملوءة بالحياة الكاملة،  فجأة ومع سابق تهديد، وسابق انذار يضطر الناس لحمل الأهم مما في جعبهم، و”الفرار” لإنقاذ أرواحهم…

أسميه فراراً ! وكيف لا؟ والناس تتسابق للوصول إلى مكان “لا صاروخ فيه،  ولا نار، ولا قذائف، أو بالأحرى لا وجود فيه لحقيقةٍ نهرب منها نسميها: “الموت”!.

الناس نزحت مع دموعها، وغصّاتها، نزحت مع فيلم وثائقي عن الذكريات، آملة ان تعود لأماكن لم يتبقّ من أكثرها إلا قبضات من رماد.

نزحت النساء وبقيتهنّ، اقول بقيتهنّ وأقصد أطفالهنّ وأزواجهنّ، وبعضهنّ حملْنَ معه أمهاتهنّ وآبائهنّ. سيارات تتدافع عنوة من فرط الزحمة الخانقة، الجنوبيات بالأغلبية الساحقة عبرْن إلى مناطق أقل خطورة، باكيات مقهورات، إذ ليس من السهل ان تكوني كائنة جديدة في شارع جديد لا تعرفي اتجاهاته، ولا دكاكينه، ولا ناسه ولا مراكز الطبابة فيه، جديدة حتى على جيرانك،  نازحة حتى إشعار آخر!

ولأنني أهتم بالنساء، ولأنني جنوبية ولأنني جربت النزوح لأيام بعد تهديد اسرائيل لمدينة بعلبكّ، عشت الخوف، وسخرت بسري من العبارة الأكثر تفاهة التي تقول “لا داعي للهلع”… تلك اللحظة التي ينقبض فيها قلبك، وتشعر أنك تعيش لحظاتك الأخيرة، فتهرول هنا وهناك في بيتك، لتلتقط ما يفيدك في رحلة الخروج ويبقي على ما تبقّى من كرامتك “برّا بيتك”.

حرفيا هو يوم كيوم القيامة، الناس صفوفاً مرصوصة بالسيارات، منهم من يمشي على قدميه لينجو أسرع من سواه، رحت افكر في بيتي كأيّ “ست بيت”. فكرت في الزرع، في الشجر الذي أتذمر من تساقط أوراقه واضطراري لكنسها كل يوم في الخريف، تذكرت غرف ابنائي، ووجود ابنائي واحفادي، حملت في رأسي مطبخي وشجر الزيتون في حديقة البيت، وأنا عملياً لا أحمل الا اوراقي الثبوتية، و ما يتيسر من ماديات. بكيت؟ نعم بكيت. عزّ عليَّ حال المدينة وحال أهلها. شعور أكبر من الكتابة عنه، وأعظم من انتقاء كلمات وجدانية تعبر عنه دلالاته، من يترك بيته وداره كمن يُعاقب بالإعدام  ظلمًا، تشعر بالشنق والخنق، ناهيك عن الذلّ هكذا هي الحرب جائرة …

لم أكن الوحيدة، ولو أن نزوحي لم يتعدّ اليومين فقط، لكنني تشاركت شعوري مع كثيرات من صديقاتي وأهلي في الجنوب. إذ تروي إحداهن أنها بكت على شجراتها، على موسم القطاف، على الثمار. وتقول أخرى كم عانت من المسافة الطويلة،  وكم اضطرت لمساعدات طبية ومالية، خصوصا أن فترة نزوحها بدأت منذ بدء العدوان حتى اللحظة هذه. لا وسائل نقل مؤمنة، لا مال كاف لتأمين حاجاتها للدواء. امرأة ثالثة تحدثت عن نقص الخدمات الأساسية في مكان إقامتها، وكيف لا ونحن من دون حرب أصلا نعاني من انقطاع الكهرباء، وضعف شبكة الانترنت، ما يساهم في انقطاعنا عن الدنيا أكثر، وشبكات المياه والخوف من عدم تأمين ما يلزم من وقود للشتاء الذي سيكون صقيعه شديداً، إضافة الى القلق المتزايد من تلقي انذارات الاخلاءات من أصحاب البيوت….

ناهيكم عمّن تحدثت عن العنف اللفظي الذي تعرضت له إثر قدومها إلى إحدى المناطق. وهذا ما يثير القلق من حدوث ما هو مكروه داخليا في ظل ازمة النزوح المتفاقمة والتي تتفاقم أكثر…

نزوح في ظل غلاء معيشة مدمر، ولكن هناك مِن الناس مَن  يعتبر الحرب موسمًا للكَسب، يروح “يضرب بالطلوع” مبالغ الإيجارات، لينتفع من ناس يشاركونه الأزمة الاقتصادية ويعانون معاناته!

طبعا ولن انسى ما ذكرته النساء أمامي عمّا سببته الحرب من أضرار نفسية عليهنّ وعلى أطفالهنّ. الخوف، الإرتباك، عدا عن الفَقد الذي ألّم بالعائلات، إذ إن الكثير منهن فقدن افرادا واقارب كانوا ضحايا هذا العدوان الشرس…

فضلا عن “الفقر المدقع” الذي يلوح بالأفق وهو الكارثة الأكبر، إذ كيف ستستطيع العائلات النازحة أن تدير قدراتها المادية، بعد أن فقد البعض وظائفه بفعل الخروج من بلدته، في ظل انهيار اقتصادي وتراجع للعملة الوطنية، وتآكل الودائع بفعل هبوط اسعار الصرف، ولا يعلم الا الراسخون في العلم والسياسة إذا كان الصراع مع اسرائيل سيمتد ليشمل مناطق أكثر…

هذا ما تيسر من مشاكل نزوح، ما بالكم من نتائجه الأكثر كارثية بعد هذه الحرب، التي نعرف متى بدأت، ولكن لا أحد منا يستطيع أن يتكهن بمتى ستنتهي، هذا اذا ما انتهت ونحن ومن نحب ما نزال على قيد الحياة متحدين  مع جراحنا الجسدية والنفسية النازفة.

Leave a Comment