زهير هواري
بيروت 21 تشرين الاول 2024 ـ بيروت الحرية
بات من المؤكد أن إسرائيل تمارس في لبنان السياسة نفسها التي مارستها في قطاع غزة، وهي سياسة أقل ما يقال فيها إنها حرب مفتوحة لا تتخللها أي نوع من أنواع الهدن أو وقف اطلاق النار، مع ما يرافق ذلك من تدمير للمقومات الأساسية للعيش والبقاء. التصريحات التي يطلقها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت تدلل أن العدوان العسكري على لبنان سيشهد خلال الأيام المقبلة تصعيدا نوعيا، سعيا نحو تحقيق الأهداف المعلنة والمتحركة، والتي بدأت من الإعلان عن النية بإقامة شريط أمني على طول الحدود الجنوبية، وإبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، لتصل الآن إلى محاولة السيطرة على المدى الذي تصل إليه الطائرات الحربية التي تعمل ليل نهار على دك القرى والبلدات والمدن اللبنانية، والتي تجاوزت حدود الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية والعاصمة إلى أقاصي البقاع في محافظة بعلبك ـ الهرمل فضلاً عن البقاع الغربي والاوسط.
ويبدو أن دفع اسرائيل المزيد من الالوية والفرق إلى الحدود مع لبنان، يعني أن مسؤوليها ليسوا بوارد القبول بعقد هدنة ولو مؤقتة، بل المرجح تكثيف الهجمات العسكرية وصولا إلى ما يصفه غالانت بأنه تجاوز كسر حزب الله إلى تدميره. ولا يغير في هذا التوجه مؤتمر باريس أو زيارة بلينكن للمنطقة وهوكشتين للبنان. وعليه تتوسع الخطط العسكرية لإلحاق أكبر خسائر ممكنة بالحزب، ومعه باللبنانيين جميعاً الذين تجاوزت العمليات تهجيرهم من ديارهم وأرزاقهم إلى جرف بيوتهم وأسواقهم ومصادر عيشهم، ما يعني أن لا عودة إلى ما كانوا عليه قبل الحرب التي بات عمرها عام وكسور. وكانت القرى والبلدات الحدودية قد تعرضت للقصف الجوي والمدفعي وبالدبابات، قبل أن تدخل الجرافات الى حيث استطاعت الوحدات البرية الوصول، وعمدت إلى جرف البيوت. وهو تعبير عن وجود قرار سياسي بتحويل المنطقة الحدودية إلى منطقة عازلة غير مأهولة بالسكان، ما يقود الى تحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى، تتمثل بتأمين حدود الدولة العبرية وتوسيعها على حساب الأراضي اللبنانية. وهو ما يجد ترجمته في تأكيدات متلاحقة وإصرار على تحقيق الأهداف المرجوّة من الحرب.
الأهداف المعلنة والمضمرة
ولكن خلافا لما تعلنه التصريحات فإن الأهداف المضمرة تفوق المعلن منها، فعمليات الإغارة والقصف الواسع التي تشهدها خمس محافظات لبنانية هي: الجنوب والنبطية والبقاع وبعلبك والجبل، تترافق مع استعدادات لغزو بري ما زالت قواه تصطدم حتى اللحظة بمقاومة ضارية تمنعه من التوغل في العمق اللبناني، واقتصار مجرياته على عمليات كر وفر واختبار بالنيران ثم تقدم إلى مواقع لا تتجاوز مساحة تتراوح بين 3 و5 كلم من الحدود الدولية والخط الازرق. مع ذلك يمكن القول إن ما يتسرب عن خطط إسرائيلية لا تنحصر بجبهة الجنوب بقطاعاته الثلاثة، فما أشيع هذا الأسبوع عن نزع الاسلاك الشائكة والالغام عن بعض المساحات الحدودية من منطقة الجولان المحتلة وإخلاء القوات الروسية مواقع لها في المنطقة يربطه العديد من الخبراء العسكريين بتوجه إسرائيلي نحو الالتفاف على الجبهة اللبنانية من خلال الأراضي السورية ومن محور شبعا وكفرشوبا والعرقوب. والمعروف أن الحد الأدنى من المواجهة من الأراضي السورية مفقود، ما يتيح للقوات المهاجمة اختراقات واسعة لا تنحصر بالعرقوب وباقي الجنوب والبقاع الغربي الغربي وراشيا، دون ان ننسى قطع طريق بيروت دمشق. وبذلك يتم تطويق البقاع والجنوب، بعد أن جرى عزلهما عن سوريا حيث مستودعات أسلحة حزب الله أو ما تبقى منها على الأقل.
وفي غضون الأيام والاسابيع المنصرمة تصاعد العدوان إلى حدود لم تعرفها المواجهة المندلعة قبل عام، ما قاد إلى مضاعفة عدد الشهداء ووصول العدد إلى 2448، والجرحى إلى 11471، بموجب إحصاءات وزارة الصحة، علما أن الرقم مرشح للارتفاع يومياً بفعل تصاعد حدة الغارات ووصول عددها اليومي أحيانا إلى حوالي 200 غارة، عدا القصف المدفعي الذي يطال قرى الخطين الأول والثاني على الحدود. ولعل كثافة الغارات التي تتجاوز تلك المناطق وتصل إلى عمق الضاحية الجنوبية والشمال الشرقي للبنان يدلل على القرار التدميري المتخذ، والذي سبق وجرى الإعلان عنه من خلال التصريحات التي أدلى بها قادة سياسيون وعسكريون حتى قبل 8 تشرين الأول عام 2023 والتي هددت بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، ثم أكدت أنها ستجعل من لبنان غزة ثانية.
المواجهة الحدودية البرية
حشدت إسرائيل حتى الآن أكثر من خمس فرق من الأسلحة البرية والميكانيكية والمدرعة والمشاة، عدا أسلحة الجو والبحر، لكنها حتى تاريخه لم تستطع تحقيق الاختراق المطلوب الذي كانت تطمح إلى إحداثه في قطاعات الجنوب الشرقية والوسطى والغربية. وكانت تراهن على أن الضربات التي وجهتها لقيادة حزب الله وصولا إلى مصرع أمينه العام السيد حسن نصر الله، ناهيك بما سبقه وتلاه من تصفية الصف الأول من القيادة العسكرية والأمنية كفيلة بانهيار جبهة المواجة لزحفها. خصوصا وقد ترافق ذلك مع غارات كثيفة قالت أنها قامت خلالها بتدمير مستودعات ومخازن الأسلحة ومنصات الاطلاق وغيرها من مستلزمات الحرب ومخازن الأعتدة العسكرية. فقد تبين أن الحزب رغم قسوة الضربات التي تعرض لها منذ 17 الشهر الماضي، ظل يمتلك إلى جانب إرادة القتال مخزونا من الصواريخ والطائرات المسيرة التي وجهها نحو جيش الاحتلال ومستوطنات العدو في شمال فلسطين، بما فيها منزل نتنياهو في قيسارية وصفد وحيفا وعكا و..، والتي تجاوز في بعضها المنطقة المقابلة للأراضي اللبنانية وبلغ تل ابيب، بعد ان أعلن أنه سينتقل إلى “مرحلة جديدة وتصاعدية في المواجهة”. وخلال عمليات القصف والمواجهات باتت حصيلة الخسائر في صفوف قوات الاحتلال المتوغلة برياً حوالى 55 قتيلاً وأكثر من 500 جريح من الضباط والجنود، بالإضافة إلى تدمير 20 دبابة ميركافا، وأربع جرافات عسكرية وآلية مدرعة وناقلة جند، وإسقاط مسيّرتين من نوع “هرمز 450”. وتشهد جبهة المواجهة ولا سيما في القطاع الأوسط معارك عنيفة تدور من مسافات قريبة ويتخللها هجمات وهجمات مضادة ويستعمل فيها الطرفان إلى جانب خبراتهما القتالية، ما في ترسانتهما من أسلحة.
الحرب الكبرى المقبلة
رغم الهجمات الإسرائيلية واسعة النطاق التي دمّرت – وفق تصريحات قادة الاحتلال – جزءاً كبيراً من مستودعات ومخازن أسلحة حزب الله، إضافة إلى تصفية الكثير من مقاتليه وقادته، إلا أن الحزب أثبت أنه أبعد ما يكون عن الوهن المعنوي، وهو ما يؤكّده تعثّر جيش الاحتلال في عملية غزو جنوب لبنان التي بدأها قبل 3 أسابيع تقريباً. ووفق مسؤولين عسكريين إسرائيليين وخبراء من المجلس الأطلسي نقلت عنهم صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، في تقرير نشرته في 19 الجاري، قولهم أنه رغم أن الكثير من ترسانة حزب الله من الصواريخ دمرت وقتل المئات من مقاتليه ( تقدر المصادر العسكرية الإسرائيلية عدد هم بـ 1500 مقاتل)، وإصابة الألوف وتوجيه ضربة قوية للقيادة السياسية والعسكرية، رغم كل ذلك، فان ما ساعد الحزب على البقاء في القتال، هو الاستعداد منذ حوالي العقدين من التحضيرات للحرب الكبرى القادمة مع إسرائيل، والهيكل المرن الذي يسمح للقادة المحليين بتنفيذ خططهم الخاصة. فقد وجد الجيش الإسرائيلي صعوبة ميدانية في التعامل مع الحزب، الذي ما زال رجاله يتمتعون بقدر كبير من السيطرة التكتيكية، ولديهم قدر كبير من الاستقلالية، و يعرفون ما هي المهمة الأساسية المتمثلة في ضرب الجنود الإسرائيليين القادمين عبر خط المواجهة. يحدث ذلك رغم التحدي الأكبر بالنسبة إلى الحزب المتمثل في عمق الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي له، والذي مكّن إسرائيل من قتل العديد من قادته.
وتقول: “واشنطن بوست” بدورها إن أنشطة حزب الله العسكرية كانت سرية على الدوام، مما يجعل من الصعب تقييم قدراته. لكن قبل حرب غزة، كان يُرجح أن لدى الحزب ما بين 20 و30 ألف مقاتل مدربين تدريباً جيداً، فضلاً عن عدد أكبر من عناصر الاحتياط، وترسانة تضم أكثر من 120 ألف صاروخ وقذيفة، وأسلحة متطورة أخرى، بما في ذلك الطائرات من دون طيار، والصواريخ الموجهة بدقة والتي يمكنها ضرب مواقع حساسة في عمق إسرائيل.
تدمير الحزب أم تدمير لبنان؟
ومنذ 23 أيلول الماضي، تعمد إسرائيل إلى تجاوز الأهداف الخاصة بضرب حزب الله بما فيه إبعاده عن حدودها أو تدميره على حد قول غالانت، إلى تفكيك البنية المجتمعية اللبنانية الهشة بأسرها، وبما يتجاوز إنزال عقاب قاس بالطائفة الشيعية التي قامت بتسليم زمام قيادتها إلى الحزب بمرجعيته الإيرانية. فإلى جانب سعيها إلى تفريغ الجنوب وبعلبك – الهرمل والضاحية الجنوبية من سكّانهم، وأغلبيتهم من الطائفة الشيعة، عملت من خلال ممارسة الطرد السكاني الواسع إلى تلغيم العلاقات بين الطوائف اللبنانية، وهو ما يفسر طوفان النازحين الذين يجري توجيه الإنذارات للباقين منهم يوميا لمغادرة بيوتهم ومناطقهم وقذفهم إلى مناطق أخرى. وتشيع عبر اعلامها مناخات من التوتر بين النازحين وأهالي المناطق غير المستهدفة، ما يهدد ويمهد لمشروع إلى تفتيت البلد بأكمله، من جنوبه إلى شماله، وضرب نسيجه الاجتماعي، ووضعه على سكة الحرب الاهلية في ضوء الاحتقان العام والحسابات الطائفية والفئوية. خصوصا في ظل الضائقة التي يعانيها اللبنانيون سواء أكانوا مقيمين أو مهجرين، لا سيما في ظل عجز لجنة الطوارئ الرسمية عن علاج “تسونامي” النزوح الذي تسبب به العدوان الإسرائيلي، وترك مئات الألوف منهم في العراء أو لدى أقاربهم المفقرين أصلاً.
وانفجار التوتر الاجتماعي الحاصل أمر لا يدخل في باب المستحيل متى أدركنا أن حزب الله قرّر خوض حرب المساندة لقطاع غزة ضد إسرائيل في 8 تشرين الأول 2023 ، دون أن يعبأ بالمواقف الاعتراضية التي ستنشب في مواجهة زج البلاد في حرب لها نتائجها التدميرية عليها في جميع المجالات دون استثناء، وبما يمكن إسرائيل من تبرير اطماعها المعروفة في لبنان سياسة وتطبيعا وأرضا ومياها. وهنا مما يجدر ذكره أن اسرائيل تتحدث عن القرار رقم 1701 وضرورة تعديله ليس فقط من أجل إعادة مستوطنيها إلى مستعمراتهم، بل من أجل بسط نفوذها على الجنوب. وهو ما بدأت التمهيد له من خلال العمل على سحب قوات اليونيفيل من الجنوب، وهو أمر دونه صعوبات سياسية دولية وأممية كبرى، والحوؤل دون قيام الجيش اللبناني بدوره في حماية الحدود اللبنانية. ولا ننس هنا أن إسرائيل منعت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من زيارتها، وفتحت وما تزال حربا شعواء على الاونروا والمؤسسات الأممية كمحكمة العدل والجنائية الدولية لمواقفهم الداعمة للقضية الفلسطينية ووقوفهم ضد حرب الإبادة التي تمارسها.
والفعلي أن اسرائيل تطمح إلى إعادة صياغة القرار اللبناني بما يضع الجنوب أو الأجزاء الجنوبية منه على الأقل تحت هيمنتها الكاملة، ويتيح لها حرية التصرف في هذه المنطقة، بما يجعلها في وضع مشابه لما كانت عليه خلال الاحتلال الإسرائيلي للجنوب في العام 1982، حيث تتمتع إسرائيل بالسيطرة الكاملة على مقدراته ولطرد معظم سكانه واعتقال من تشاء ومنع من تريد من دخول المنطقة، بما يجعل الجنوب نسخة مشابهة لما هي عليه الضفة الغربية المحتلة. من هنا تتلاحق المطالبات الإسرائيلية على لساني نتنياهو ووزير خارجيته كاتس مطالبة برحيل قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) بذريعة الفشل طوال 18 عاماً في تأدية مهمتها وتطبيق القرار 1701، ومنع الوجود العسكري لحزب الله بالقرب من الحدود. علما أن إسرائيل كانت هي السباقة ولم تقصر في ممارسة كل ما من شأنه تعطيل تنفيذ القرار.
Leave a Comment