*بسام مقداد
اللبناني الذي دفن قتلاه، المهجر من بيته المدمر، المفترش أرصفة الشوارع وساحات المدن والقرى، النازح إلى سوريا والعراق، المنتظر للمساعدات الإنسانية لسد جوعه وكسوة عريه، لا تنقصه سوى المشادات بين “الخبراء والمحللين” اللبنانيين على شاشات مواقع الإعلام. لا تكفيه ملاحقة ما ترتكبه آلة الحرب الإسرائيلية في كل لحظة على كل خريطة لبنان، من دون استثناء، حتى تبرز على الشاشات من بين أشلاء حياته وجوه عابسة متحفزة للإنقضاض على “خصومها” اللبنانيين الآخرين وتمزيق كل ما ينطقون به. وأكثر الوجوه عبوساً، تلك التي تطل على اللبنانيين لتبشرهم بـ”نصر إلهي” جديد يعيشون ما يجره عليهم حاضراً، وجرهم عليهم سابقاً.
الكارثة التي تلحقها إسرائيل باللبنانيين، كل اللبنانيين، والرعب الذي يعيشونه مع كل قصف إسرئيلي جديد يلاحقهم من أقصاه إلى أقصاه، تعجز ويعجز، كما سبق منذ سبعينات القرن الماضي، أن تجعل أحدهم، على الأقل، يستمع للآخر لا أن يشاركه مواطنة لبنانية واحدة. ما الكارثة المطلوبة أن تلحق باللبنانيين بعد ليدركوا أنهم يتشاركون مصيراً واحداً. ليدركوا أن المطروح على الطاولة الآن مصير لبنان، بلدهم جميعاً وليس بلد طائفة واحدة تكابد الآن ما سكتت عما ارتكبه باسمها فريق صادر لبنان الدولة والوطن، ليلحقه بأجندة ملالي إيران الذين وزعوا إسم الله على أذرعهم في المنطقة.
العالم يهتم بلبنان كواحد من أضعف ساحات الصراع التي تتنازعها الآن إيران وإسرائيل. وإذ يعتبر الصراع بين الدولتين صراعاً مصيرياً لكل منهما، لا يعتبره كذلك بالنسبة للبنان، على رغم كل ما عاناه ويعانيه من هذا الصراع الذي وضعه على حافة الانهيار كوطن وكيان. العالم اعتاد أن يكون مصير لبنان بيد واحدة من القوى الخارجية، ويعمل الآن على تحسين شروط إلحاقه بأي من هذه القوى المستعدة لتولي مصير لبنان على كل علاته، أملاً بامتلاك صوت رسمي في المنابر الدولية.
موقع الخدمة الروسية في إذاعة “صوت أميركا” نشر في 11 الجاري نصاً بعنوان “الخيار الوجودي، حزام نار حول إسرائيل أم سقوط “نظام آيات الله” في إيران؟”. حرب إسرائيل على غزة، الحملة العسكرية ضد حزب الله، وقصف إسرائيل بالصواريخ الباليستية من قبل إيران، رأى الموقع فيها جميعها خطوات تؤدي إلى تصعيد في المنطقة محفوف بعواقب لا يمكن التنبؤ بها. كما رأى أن إيران تبقى التهديد الوجودي الرئيسي للدولة العبرية، على الرغم من كل النجاحات الكبيرة التي أحرزتها الأخيرة ضد حماس وحزب الله وفي التصدي لصواريخ إيران الباليستية.
طرح الموقع على عدد من الخبراء بشؤون المنطقة عدة أسئلة تتعلق بإمكانية إسرائيل أن توظف تلك النجاحات في سياسة ردع راسخة، وإقامة نظام أمني في شمالها وجنوبها، وما المطلوب لذلك. وحدد الخبراء خلال مناقشاتهم أربعة عوامل خطر رئيسية في الشرق الأوسط: حتمية العدوان التالي من قبل إيران والمجموعات الإقليمية التابعة لها، إحتمال إطلاق صواريخ باليستية أخرى وهجمات بطائرات من دون طيار ضد إسرائيل، احتمال اتخاذ خطوات عدوانية ستقررها إيران في المستقبل القريب، وأخيراً تطوير طهران لبرنامجها النووي.
نائبة رئيس معهد Brookings ومديرة برنامج بشأن السياسة الخارجية في المعهد Suzanne Maloney لاحظت أن خطاب إيران الدائم المعادي للسامية وإسرائيل أصبح أكثر تشدداً بعد 7 أوكتوبر/تشرين الأول العام الماضي. ورأت في هذا التصعيد بالخطاب الإيراني تلميحاً إلى أن إسرائيل محكوم عليها بأن تختفي من صفحات التاريخ، وبالانهيار تحت وطأة مشاكلها الداخلية والخارجية. واعتبرت أن هذا يشير إلى أن استراتيجية إيران ليست بالضرورة مرتبطة بمواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، بل هي موجهة لخلق ظروف لا تُحتمل بالنسبة لوجود الدولة العبرية.
أكدت الخبيرة بأن مهمة إيران، المعتادة على العمل بأيادي غيرها، تقوم بخلق ما يشبه “طوق النار” حول إسرائيل. ولهذا وضعت تصفية قيادة حزب الله طهران في وضع “الجهة الخاسرة”. لكن لا يزال لدى “نظام آيات الله” حتى الآن “ما يبيعه” لأنصاره في الداخل والخارج. فقد وجدت إسرائيل نفسها حتى الآن مضطرة لاختصار حدودها بإجلاء مواطنيها من الشمال والجنوب، وتواصل العيش كقلعة محاصرة تصد الضربات من مختلف الجهات.
رأت الخبيرة أن إيران نجحت في نزع الشرعية على المسرح الدولي عن حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها. فعدد الدول التي تدين عمليات الجيش الإسرائيلي العسكرية قد تزايد، واندلعت التظاهرات المؤيدة للفلسطينين في شوارع عواصم العديد من بلدان العالم. كل هذا يروج لفرضية أساسية في أيديولوجية الجمهورية الإسلامية، وهي الاعتقاد بأنه “يجب القضاء على إسرائيل”. وترى أن الخطاب والتصريحات المرتبطة بهذه الأيديولوجية هي القناعة الفعلية للجميع في المنطقة من أن إسرائيل هي “مشروع قصير الأجل في المنطقة”، وإضعافه سيؤدي في نهاية المطاف إلى زواله. وهذا بدوره يجعل وجود القوات الأميركية في المنطقة مثاراً للشك، حيث أن إيران تسعى للتعجيل بسقوط إسرائيل من أجل أن تفقد الولايات المتحدة وجودها في الشرق الأوسط.
الباحث في مركز Cornegie الرئيسي كريم سجادبور يتفق كلياً مع ما قالته الخبيرة السابقة، ويضيف بأن كل كتابات الخميني الكثيرة كانت مهجوسة بإسرائيل، وتطفح بالعداء للسامية. وخامنئي الذي تسلم الراية من الخميني بقي أميناً لوجهة النظر هذه. ورأى أن لنظام آيات الله ثلاثة أهداف إستراتيجية تتبعها إيران على مدى العقود الزمنية الأخيرة: استبدال إسرائيل بفلسطين، طرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وإسقاط النظام العالمي الذي تتزعمه.
رأى الباحث أن نقطة ضعف نظام الملالي تتمثل في تمسكه بفكرة البقاء في السلطة. فكل الملالي، وكما في سائر الأنظمة التسلطية، يعتبرون أن لا مكان للحلول الوسط السلمية، وحين تقبل بتقديم التنازلات، لن ينخفض الضغط عليك. ويعتبرون هذا دليل ضعف سيؤدي إلى مزيد من الضغوط.
يعبر الباحث عن قناعته بأن إيران لا تريد الحرب مع إسرائيل على الأراضي الإيرانية، لكنها ترحب بخوض الحرب ضدها من الأراضي العربية. ولهذا يرى أنه بعد اغتيال حسن نصرالله، أدرك الحرس الثوري لأول مرة في تاريخ إيران بعد ثورة الملالي، أن قصف إسرائيل من الشمال وفكرة إنشاء “طوق ناري” حول إسرائيل كان خطأً، وقد يكون “خطأً مميتاً”.
يعود الموقع لينقل عن الخبيرة Suzanne Maloney تأكيدها من أن حزب الله يبقى الرصيد الأكثر قيمة لإيران في المنطقة. ورأت أن تنشيط إيران لذراعها اللبناني كان نتيجة للرهانات المرتفعة بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أوكتوبر العام الماضي. فقد تمكنت طهران أن تثير الفوضى والذعر في المجتمع الإسرائيلي بأيدي الفلسطينيين. وكان الإيرانيون متأكدين أن إسرائيل سترد، لكنه قد لا يكون رداً غاضباً. ولبعض الوقت كان الوضع في شمال إسرائيل (إجلاء السكان) يغري طهران بتنشيط حزب الله. لكن تصفية قادة هذا التنظيم واغتيال حسن نصرالله، لم يترك لطهران الخيار. ورأت أن إيران ابتلعت الطعم، وجميع أعمال طهران اللاحقة -قصف إسرائيل والعمليات الإرهابية- وضعت طهران في مرمى النيران الإسرائيلية.
الباحث كريم سجادبور رأى أن فلسطين كانت محور قضية السلام في الشرق الأوسط، لكن طهران أصبحت قلقة للغاية حين تم التوقيع على اتفاقيات إبراهيم. وكان من شأن التطبيع بين السعودية وإسرائيل أن يفقد القضية الفلسطينية “بريقها”. وكانت حسابات طهران مبنية على فشل إسرائيل والولايات المتحدة بإقامة دولة للفلسطينيين في الشرق الأوسط، مما يجعلهم المسؤولين عن كل المشاكل في المنطقة في عيون العرب. وبدلا منهما ستأتي إيران إلى فلسطين وتقيم “المجتمع الصحيح” في فلسطين وتدعمه عسكرياً.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الأربعاء 2024/10/16
Leave a Comment