لا يتكرر سيناريو الحرب الإسرائيلية على غزّة في لبنان في المسارين العسكري والميداني فقط، إنما في المسارات السياسية والديبلوماسية وآلية التفاوض التي يعتمدها حزب الله من جهة، والإسرائيليون من جهة أخرى. وسّع الإسرائيليون من عملياتهم العسكرية براً وجواً. يصرّون على إحراز تقدّم برّي لتغيير واقع عسكري، ويستهدفون البيئة الحاضنة لحزب الله لفرض التهجير وفصل بيئته عنه وإضعافه، ما يشكل عناصر ضاغطة عليها.
رهانات على الحرب البرّية
في المقابل، يراهن حزب الله على العملية العسكرية البرية لإلحاق خسائر كبيرة في صفوف الإسرائيليين، لعلّ ذلك يغيّر من موقف تل أبيب ويدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى التراجع والقبول بالمفاوضات. هي رهانات متضاربة، لا يبدو أن المكان فيها متاح للتفاوض السياسي على الرغم من تأكيد نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، تفويض الرئيس نبيه بري بالدور الديبلوماسي الذي يقوم به.
ما يشير إلى الصعوبة التفاوضية، هو ما أكده مسؤولون أميركيون لشبكة “سي أن أن” حول توقف محاولات وقف إطلاق النار، وتجميد المبادرات وعدم السعي لإحياء المقترح الذي كان يتعلّق بوقف الحرب في لبنان. يعني ذلك أن واشنطن تمنح إسرائيل ضوءاً أخضر لمواصلة عملياتها العسكرية، والارتكاز على عناصر الضغط العسكري لدفع حزب الله إلى تغيير موقفه وتقديم تنازلاته، لا سيما أن الأميركيين وقبل الوصول إلى بدء العملية البرية الإسرائيلية، كانوا قد عرضوا فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، وانسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، بالإضافة إلى فرض شروط سياسية تحدث تغييراً في موازين القوى. وهو ما رفضه حزب الله بالمطلق.
تغيير عقيدة بن غوريون
نقطتان أساسيتان لا بد من التوقف عندهما في كلام نعيم قاسم، تتعلقان بالمحور ودوره وتوجهاته. فمن زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى كلمة نعيم قاسم، رهان المحور على صمود مقاتلي حزب الله في الميدان لتكبيد الإسرائيليين خسائر كبيرة ما يدفعهم للقبول بالتفاوض. وهذا ما قاله وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته إلى بيروت، وهو ما أكد عليه نعيم قاسم أيضاً. بداية، في استعادة لتجربة غزّة، فإن إسرائيل أبدت استعداداً لتحمل الخسائر الكبيرة بشرياً، وعمل نتنياهو على تغيير عقيدة بن غوريون حول الحروب السريعة والخاطفة وكرّس مبدأ الحرب الطويلة والتي تتضمن خسائر، وذلك يتجلى أيضاً في تخليه عن الأسرى، أو اعتماد غير معلن لبروتوكول هنيبعل.
ما بعد وقف النار
يمكن اعتبار تفويض الرئيس نبيه بري بالدور والمساعي الديبلوماسية لوقف إطلاق النار محاولة لفتح الباب للحلول الديبلوماسية. ولكنه لم يشتمل على ما بعد وقف إطلاق النار. إذ إن ما كان مطروحاً لم يكن بند وقف إطلاق النار لوحده، بل جاء ضمن سلّة من المواضيع، بينها وقف إطلاق النار، وتطبيق الاتفاقات الدولية، انتشار الجيش اللبناني في الجنوب، وإنجاز تسوية سياسية. ما يعني عدم القدرة على فصل هذه الملفات عن بعضها البعض. فجاء كلام قاسم لينسف هذه السلّة المقترحة، وشدد على مطلب وحيد وهو وقف إطلاق النار، وبعدها يتم البحث في المواضيع الأخرى. تفويض برّي كان منذ أيام نصرالله، ولا يزال سارياً، ولكن برّي عمل على سلّة كاملة، بخلاف ما يريده الحزب حالياً، خصوصاً مع تبلّغ لبنان بمواقف دولية واضحة بأنه لا يمكن لأحد أن يقبل باستمرار المنطق الذي كان قائماً في السابق.
في المقابل، فإن الإسرائيليين والمجتمع الدولي لن يوافقوا على وقف إطلاق النار في لبنان وحسب. هو السيناريو نفسه الذي حصل من قبل في غزة، إذ رفضت إسرائيل وأميركا وغيرهما الوصول إلى وقف إطلاق نار فقط، وبعدها النقاش في الملفات العالقة. وراهنت حماس على الحرب البرية وتكبيد خسائر بشرية وسياسية واقتصادية في إسرائيل لوقف الحرب. وهذا لم يحصل.
فتح كلام قاسم المجال أمام احتمالات الحرب الطويلة وإمكانية التوغل البري الإسرائيلي، عندما قال إنه لا قيمة للأمتار لأن المقاومة تراهن على الالتحام وتكبيد الإسرائيليين خسائر كبيرة. وهو أيضاً ما كان قد ركّزت عليه حركة حماس مع بداية التوغل البرّي في غزة.
* نشرت على موقع المدن الالكتورني بتاريخ 9 تشرين اول 2024
Leave a Comment