*أحمد بيضون
بعد أسابيعَ أو أشهرٍ سنكون ما زلنا صامدينَ في الجهةِ اللبنانيّةِ من الجبهةِ (بمعنى القدرةِ على إطلاقِ النار): صامدينَ على غرار “حماس”، في غزّة، بل أفضل. ولكنّ مناطقَ بحالِها من بلادنا ستكون قد أصبحت قريبةَ الشبهِ بغزّة اليوم. وأمّا الأملُ في إعادة الإعمار (ودَعْ عنك تعويضَ بشرٍ لا يعوّضون وترميمَ نسيجنا الاجتماعيّ السياسيّ) فسيكون بعيدَ الشبه جدّاً بما كانت عليه حالُنا غداةَ حرب ٢٠٠٦: لا الدولةُ ومقدّراتُها هي نفسها ولا استعدادُ الدول الأخرى القادرة ولا مواردُ المواطنين.
سنجد أنفسنا، بعد سنواتٍ، أشبهَ، لهذه الجهة، بما هي عليه حالُ سوريّا. وقد أصبح تعاقُبُ أعوامٍ مضت يتيحُ تبيّنَ ملامحها العامّة: بقيَ الدمار المنتشر، ما خلا أقلّه، في مواضع انتشاره، وبقي ستةُ ملايين سوريّ غرَّبَتْهم الحربُ في مهاجرهم القريبة والبعيدة، وبقي سبعةُ ملايين آخرين مهجّرين في بلادهم: نصفُهم تقريباً في المناطق الموالية للنظام الأسديّ والنصفُ الآخر في المناطق الأخرى. وانتهى النظام المشارُ إليه، بعد نصف مليونٍ من القتلى سقطوا، إلى حطامٍ سياسيّ متربّعٍ فوق حطامٍ اقتصاديّ-ماليٍّ ومدينٍ بثباته، فضلاً عن شبكةِ سجونهِ واستخباراتهِ الباقيةِ، لشبكةِ احتلالاتٍ متواجهةٍ متقاطعةٍ، لم يتطوّع أيٌّ منها لحمل نصيبٍ يُذكَر من العبءِ الإعماريّ المهول، إلخ…
بُنِيَ فتحُ الجبهة اللبنانيّة على تقديرٍ للردعِ المتقابل تبيّن أنّه ضلالٌ مبينٌ، وعلى اطمئنانٍ إلى التمَكّن من ضبط المواجهة بـ “قواعدِ الاشتباك” المزعومةِ، وكان اطمئناناً في غير محلّه قطعاً. ولا يحتاج المرء إلى جهد “استنتاجٍ” لهذا الاطمئنان وذاك التقدير فهما ظلّا يُعلنان كلّ يومٍ وظلّ الجمهورُ الفخورُ يهدهَدُ بهما دون كللٍ من بدءِ القتال… بل قَبْلَ بدئهِ أيضاً. وأمّا أنّهما كانا مشوبينِ بخطَلٍ جسيمٍ فأمرٌ احتاج ظهوره إلى قافلةِ هذين الأسبوعين الرهيبين من القتلى والجرحى، وإلى دمارٍ منتشرٍ وصلت بعض صورهِ، ولم يتيسّر إلى الآنِ تقديرٌ يُعْتَدُّ بهِ لأبعاده، وحبلُهُ وحبلُ الموتِ معهُ، في كلّ حالٍ، على الجرّار.
وأمّا قافلةُ النزوح-الفاجعة فلم تستكمل تبديدَ مفاعيلِ الطمأنةِ الملحاحةِ وحسبُ بل فضحت أيضاً ما لم يكن محتاجاً إلى فضحٍ: فضحت خواءَ البلادِ المنهوبةِ والمجتمعِ الممزّقِ والدولةِ المفلسةِ المتهالكةِ، من كلّ ما قد يرُدُّ عن البشر ما يفتَرَضُ ردّه من ويلاتِ الحروبِ، إذا لم يكن من خوضها بُدّ.
فُتحت الجبهةُ باسمِ إسنادِ غزّة، وجُعِل وقفُ النار في غزّة شرطاً وحيداً لوقفها من لبنان. وفي مدى عامٍ تقريباً، تُرجِم الإسنادُ تهجيراً ودماراً في مستعمرات الجليل قابلهما تهجيرٌ ودمارٌ في بلدات الجنوب وقراه، وبقيت جهتا الجبهة على شيءٍ من التعادل الرجراجِ في هذا وذاك. تُرجِمَ الإسنادُ قتلاً وجرحاً أيضاً في العسكريّين والمدنيّين من الجهتين، ولم تتعادل الكفّتان المتواجهتان ها هنا بل لبثت كفّةُ العدوّ راجحةً جدّاً، وظهرَت في اصطياده المتكرّر للمقاتلين المعيّنين بأسمائهم وصفاتٍهم أرجحيّتُهُ الاستخباريّةُ والتقنيّةُ بما لها من خطر. هذا كلّه ظلّ يجوز إدراجه، على حاله هذه، في خانة المعلومِ المتوقّع.
ولكنّ أخطرَ ما تمخّض عنه الدمارُ والتهجيرُ في المستعمراتِ الجليليّة كان الدفعَ الأهليّ المتزايدَ الشدّة نحو مخرجٍ عسكريٍّ من المواجهة الحدوديّة لا يقتَصرُ على وقفٍ للنار تعودُ الأمورُ بعده على جانبي الحدودِ إلى سابق مجراها. أخذ المهجّرون يجاهرون برفضِهم العودة إلى متناول النار التي هجّرتهم، ولو توقّفت، ويلحّون في إبعادها، عوضَ ذلك، بالقوّة إلى مدىً يعجزُها عن المسّ بهم مرّةً أخرى.
بهذه المثابةِ، كان المفعولُ السياسيّ لمهجّري الجليل مخالفاً كلّيّاً لمفعول أهالي الأسرى المقيمين في قبضةِ “حماس” من يوم ٧ تشرين المعلوم، وقد راح يتكشّف مقتلُ العديد منهم وفشلُ الجيش في الإفراج عن البقيّة أحياءً. كان أهالي هؤلاء يلحّون في إبرامِ صفقةٍ تنهي القتالَ في غزّة ويخرجون بموجبها من الأسر،ِ فيما كان مهجّرو الشمال يلحّون في تحويل “المشاغلة” الجارية مع الحزب اللبنانيّ إلى مجابهةٍ حاسمة.
هذا والراجح أنّ عمومَ اللبنانيّينَ لم يولُوا اهتماماً يُذكرُ للتأييدِ الذي ظلّت الاستطلاعاتُ تظهرُ تمتّعَ مطلبِ المهجّرين هذا به في الرأي العامّ، إذ أوحتْ أنّه لا يقلّ عن ستّين بالمائة. بدا إذَنْ أنّ جانباً من المطالِبينَ بطيّ صفحةِ الحَرْبِ في “جنوبهم” يطالبون بفتحها في جنوبنا نحن.
وقد كان جهلاً أو تجاهلاً للغطرسةِ الصهيونيّة ولإملاءاتِ التحالفِ الحاكم في إسرائيل ومقتضياتِ صموده ولأحكام الرأي العامّ فيها أيضاً أن لا يولى هذا المعطى اهتماماً راجحاً وأن يظلّ يعتبرُ كافياً لردعِ حكّام إسرائيل عن التصعيد، التحفّظُ الأميركيّ معزّزاً بالتلويح المتكرّر بخطرِ الحرب “المفتوحة” على إسرائيل نفسها!
ولكن ربّما كان الأوانُ قد فات حين راحت حقائقُ الحبكة السياسيّة العسكريّة تتكشّف للعيان وتتنامى. ربّما كانت حربُ غزّة قد طالت أيضاً أكثرَ بكثيرٍ ممّا كان مقدّراً لها أصلاً. ربّما كان حفظُ معنويّات الحزب المقاتل في لبنان قد أخذ يعلو، في هذه الأسابيع الأخيرة، على كلّ حسابٍ أو تحسّب.
كان “إسنادُ غزّة” قد فقَدَ كثيراً من قدرته على الإقناع بعد أن واصل حكّامُ إسرائيل وجيشهم إجرامَهم العصيَّ على الوصف، وجعلوا له ملحقاً متوسّعاً في الضفّة الغربيّة، متحَدّينَ، لا الضغطَ اللبنانيّ وحده، بل ضغوطاً تقاطرت من أركان المعمورة كافّةً وبعضُها ضغوطُ جهاتٍ قويّةٍ يحرصون على مُوادّتِها عادةً. وهم قد بلغوا من الحرب، ولو مضوا فيها قُدُماً، مرحلةً أتاحت لهم “تحريرَ” ما يكفي من قواهم للتوسعة في جبهتهم الأخرى. هذا أيضاً كان تطوّراً في “الحبكة” له عواقبه.
هل كان يسع جبهةَ الجنوب اللبنانيّ (وقد ظهر عجزُها عن فرضِ غرضها المعلن ولاحت مَهالكُ آفاقها المحتملةِ) أن لا تُفتح أصلاً؟ لا يعدَمُ القائلون بحتميّة فتحها عاجلاً أو آجلاً ستاراً “ماهويّاً” مجرّباً طالما ابتذله الاستبدادُ في دولنا، على اختلافها. ذاك هو القول بـ “طبيعةٍ” عدوانيّةٍ للعدُوّ تدفعه إلى العدوان مهما نفعل. وأوّل مفاعيل منطق “الطبائع” هذا تحبيذُ الاستغناء عن السياسةِ أو حصرُها في حدّيٍّ الاستسلام بلا تردّدٍ والإقدامِ بلا حساب. في الحالةِ التي نحن حيالها يطمحُ هذا المنطقُ إلى سترِ الغلطِ المدمّرِ في الحساب وفي القراءة، وقد أشرنا إلى وصمِهِ القرارَ الأوّلَ، وكثيراً ممّا تبعه. فهل كان هذا “الغلط” مجرّدَ غلط؟ ما نراه أنّ فتْحَ الجبهةِ كان استجابةً لـ “وظيفةٍ” عرّف بها التنظيمُ المقاتلُ نفسه، في الأصلِ، ورهنَ بأدائها صيتَهُ فكان من شأنِ التنحّي، بعد ٧ تشرين الغزّيّ، إلحاقُ أقصى الضرر بهذا الصيتِ وتلك الوظيفة. كان فتْحُ الجبهةِ أيضاً استجابةً لما يمليه حفظُ هيبةِ “المحور” الذي ينتمي إليه هذا
التنظيم. هذه الاستجابةُ الأخيرةُ نابَ فيها التنظيم عن راعيه الإيرانيّ الذي دأب، من البدءِ، في التشديد المطّرد على رغبته في اجتناب الضلوع المباشر في الحرب وزادَ من حدّة هذه الرغبة، بلا مراءٍ، انتخابه الرئاسيّ الأخير. غنيٌّ عن البيانِ أنّ التنظيم اللبنانيّ نابَ أيضاً عن حطامِ النظامِ السوريّ الذي لا يكفّ العدوّ عن استفزاز “سيادتِهِ” الخالدة فيفتحُ عينيه لحظةً ثمّ يعودُ إلى تماوته…
بهذا المعنى وحدَهُ (وهو حاسمٌ) كان فتْحُ الجبهة اللبنانيّة قراراً لا مفرّ منه. ولكنّ الصفةَ الذاتيّة-المحوريّة لهذا الدافع حصرت التماهي اللبنانيّ به في المكسوبين سلفاً للحزب المقاتل ولمفردات لغته. فتوزّعَتْ كثرةٌ كاثرةٌ من اللبنانيّينَ بين رفضٍ معلنٍ وآخرَ مكتومٍ لما اعتُبرَ “ورطةً” لا مصلحةَ للبلاد فيها ولا طاقةَ لها بها. وزادَ من هذا النزوع مسلكٌ لبنانيٌّ مديدٌ للتنظيم نفسهِ محطّاتُه معلومة. زادَ منه أيضاً توجّسٌ طائفيٌّ من استثمارِ المعركة الجارية في التنازع الطائفيّ المحتدم أصلاً، وهو ما كانت قد أفضت إلى شيءٍ منه حربُ ٢٠٠٦. وقد انفجر بعضُ هذا الخليط شماتةً بذيئةً، حملتها شبكاتُ التواصل، بضحايا الحرب ومنكوبيها. هذا فيما تعالى آخرون ومدّوا يدَ العون…
وعند هذا الشتاتِ الكئيبِ نقفُ الآن… ولكن هل نقف فعلاً أم يُسارُ بنا من مَهْلَكةٍ نحوَ تاليَتِها؟
*نشرت بتاريخ 25 أيلول 2024
Leave a Comment