زكي طه
بيروت 24 أيلول 2024 ـ بيروت الحرية
تبدلت أولويات الحرب الاسرائيلية المفتوحة منذ عام، عندما أضافت إليها حكومة العدو هدف إعادة مستوطني مستعمرات شمال فلسطين. لم تعد الحرب القائمة محصورة باستهداف الشعب الفلسطيني في وجوده وقضيته وحقوقه الوطنية. لقد شكل الاعلان نقضاً لقواعد الاشتباك التي ارتضتها القيادة الاسرائيلية للتعامل مع معركة مساندة غزة التي قررها حزب الله بمعزل عن ارادة اللبنانيين ومصلحتهم الوطنية، تحت وطأة أولويات حرب نتنياهو في قطاع غزة والضفة الغربية.
ومع الاعلان بدأت مرحلة جديدة من الحرب الاسرائيلية المفتوحة ضد لبنان، وفتحت المواجهة مع حزب الله على مصراعيها. لقد دخلت التهديدات الاسرائيلية المتكررة بتدمير لبنان قبل الحرب وخلالها موضع النفاذ. سريعاً تجاوز مسلسل العمليات الحربية كل الخطوط الحمر. وهي التي بدأت مع تفجير اجهزة الاتصال الخاصة بحزب الله التي أوقعت عشرات الشهداء وألوف الجرحى، واتبعتها بشن مئات غارات القصف الجوي التدميري لسائر بلدان وقرى مناطق الجنوب والبقاع، بذريعة استهداف مواقع ومراكز الحزب، موقعة مئات الشهداء والجرحى.
وعليه سقطت كل التحليلات البائسة التي تدعي أن اسرائيل لا تجرؤ على الدخول في حرب مع حزب الله، ولحقت بها تهديدات قادة الحزب التي تحذرها من الدخول في حرب ستنتهي بزوالها. وعليه بات لبنان عرضة لعمليات الابادة والتهجير والدمار، و أمام مصير مشابه لما آلت إليه أوضاع قطاع غزة.
لا يمكن النظر للحرب على لبنان خارج اطار استراتيجية الحرب الاسرائيلية واهدافها المعلنة والمضمرة، سواء حيال الشعب الفلسطيني في وجوده وقضيته وحقوقه الوطنية، أو لناحية تصفية الحساب المفتوح منذ عقود مع لبنان، وهو الهدف المؤجل لمصلحة ما سبقه. ما يعني أن لبنان اصبح ساحة مشرعة لحروب ومعارك تحكمها استراتيجيات متصارعة تتقاطع عندها وعبرها مصالح كبرى لدول لا تعبأ بمصيره الوطني أو الانساني ولا بمستقبل أبنائه.
السياسات الاميركية ـ الاسرائيلية
لم تعد السياسات الاميركية النافذة في إطار استراتيجية السيطرة على بلدان ومجتمعات المنطقة والتحكم بإدارة شؤونها، موضع تكهنات أو تقديرات تحتمل الخطأ أو الصواب، نظراً للوقائع الدالة عليها في ميادين الصراع، والتي يصعب أحصاؤها سواء في سياق تدخلها في الازمات القائمة، أو في إدارتها طوال العقود الماضية تحت راية الفوضى الخلاقة.
ولا تختلف عنها سياسات الحكومة الاسرائيلية ومخططاتها الحكومة التي تظلل حربها المفتوحة منذ عام، والمرشحة للاستطالة إلى أمد طويل. باعتبارها تستهدف تغيير خريطة المنطقة وتنفيذ مخطط اسرائيل الكبرى، بحيث يشكل الاردن الوطن البديل للفلسطينيين، وتمثل مصر ملجاً لأهالي قطاع غزة. وقد سبق ذلك تكريس ضم الجولان السوري المحتل منذ العام 1981، بانتظار تصفية الحساب مع لبنان على النحو الذي يضمن الامن الاسرائيلي لأمد طويل.
ليس جديداً القول، إن أهداف حكومة العدو تنطلق من الاجماع الداخلي على الهدف الرئيسي المتمثل بإقامة اسرائيل الكبرى. وتستند إلى موازين القوى القائمة راهناً والمختلة على نحو فادح لمصلحتها، بقوة دعم الادارة الاميركية السياسي والعسكري والتسليحي، ودعم الدول الاطلسية الغربية الكبرى. مقابل حياد الروسي والصيني في موازاة قدرة تلك الادارة على استغلال النتائج السلبية للتدخلات الايرانية والتركية التي لم تزل تتلاعب ببنى البلدن العربية وشعوبها من مواقع طائفية ومذهبية. وسعيها لتحصين وتطوير موقع الكيان الاسرائيلي الخاص والاستثنائي، باعتباره ذراعا وأداة للتدخل والمواجهة، إلى جانب طبيعته الاستيطانية التي تستهدف الشعب الفلسطيني في وجوده وقضيته وحقوقه الوطنية على ارضه.
يضاف إلى ذلك الوضع العربي المحاصر بالعجز، وباستسهال العديد النظم الحاكمة التطبيع مع اسرائيل ومتابعة حصارها المزمن للقضية الفلسطينية، والاستنكاف عن القيام بإي دور داعم لها. هذا عدا الخيارات الخاطئة والمدمرة لدى قوى الانقسام الفلسطيني المرتهنة للخارج الاقليمي، والتي ترفض العودة إلى مظلة الوحدة الوطنية التي تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية، والالتزام بتنفيذ الاتفاقات الموقعة بهذا الشأن مراراً وتكرارً قبل الحرب المدمرة وفي سياقها.
الدور الايراني
وفي سياق الخلل تقع مفاعيل استراتيجية النظام الايراني الذي تعمّد توسيع نفوذه الاقليمي عبر استغلال العجز العربي عن مواجهة اسرائيل، ورفع شعارات مقاومتها والدعوة لإنهاء وجودها. وهو الذي أمعن استغلال البنى الطائفية والمذهبية باعتبارها ركائز وأدوات لخدمة وتنفيذ سياساته التفكيكية، التي بقدر ما تتقاطع مع استراتيجية الفوضى الخلاقة الاميركية، فإنها ايضاً تصب في طاحونتها.
هذا ما أكدته سياسات النظام الايراني حيال الحرب الاسرائيلية على امتداد العام الماضي، والتي تمثلت بالخضوع التام للتهديدات الاميركية والتزام عدم المشاركة المباشرة في الحرب أو الرد على ما تعرض له ايران من اعتداءات بذريعة عدم الوقوع في فخ الاستدراج الاسرائيلي لها. والاكتفاء عن بُعد برعاية معارك مساندة غزة من قبل أذرعها الطائفية المحلية. وكما كرر قادة ايران مواقف التأييد اللفظي لحركة حماس وهي تواجه الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، ها هم الآن يكررون المواقف ذاتها حيال الحرب الاسرائيلية على حزب الله ولبنان. والثانية بدأها حزب الله مساندة للأولى، فيما هو يفتقد راهناً من يسانده في مواجهة ضربات الحرب الاسرائيلية المدمرة التي تستهدفه ومعه البلد بمجمله.
وبعيداً عن بيانات الادانة الكلامية للعدوان الاسرائيلي التي يكررها قادة النظام الايراني، وشعارات التأييد والاشادة بصمود الحزب ومطالبته بالرد على العدوان والتصدي له، نشهد تكاثر المواقف الانفتاحية حيال الادارة الأميركية، والتأكيد على طلب الصداقة والعلاقات الإيجابية معها، وعلى أنها ليست بوارد الدخول في حرب مع اسرائيل. وكما تخلت عن غزة وتركت حركة حماس تواجه مصيرها، ها هي الآن تؤكد تخلّيها عن حزب الله، والاكتفاء باستضافة بعض جرحاه، وتركه وحيداً يدفع ثمن خياراته الخاطئة التي اطاحت بانجاز التحرير من الاحتلال عام 2000، والذي كان قد ساهم في إنجازه بقوة تضحيات مقاتليه ودماء شهدائه. وبعد أن دُفع لمعركة مساندة، لم تساند غزة ولم تدعم القضية الفلسطينية، ها هو الآن ومعه لبنان يواجهان منفرديْن جبروت آلة الحرب الاميركية التي تستخدمها اسرائيل بشكل بربري أمام انظار العالم وصمته المدوي.
من المؤكد أن الادارة الاميركة ليست بعيدة عن قرار الحرب الاسرائيلية المفتوحة ضد لبنان، وليست في استعجال من أمرها لوقفها، وهي التي شاركت في رسم اهدافها. وليس مفاجئاً أن يكون القرار الاميركي اتاحة الفرصة امام اسرائيل لتحقيق أغراضها، سواء في فلسطين أو لبنان، حيث لا وجود لأية مؤشرات جدية أو معطيات فعلية يمكن المراهنة عليها، للحد من الاندفاعة الإسرائيلية التدميرية، التي تؤكدها العمليات التي تسبق وترافق تهديدات قادة الكيان الاسرائيلي والناطقين باسم مؤسساته العسكرية والسياسية.
لقد أُدخل لبنان معمعة حرب تدميرية شاملة، وبات الجدل وتبادل الاتهامات من الماضي. واصبحت المخاطر داهمة تؤكدها اعداد الضحايا التي تجاوزت المئات ومستويات الدمار غير المسبوقة، وكلاهما مرشح للارتفاع، في ظل تسارع وتصاعد العمليات الحربية الاسرائيلية التدميرية والتهجيرية التي لم تتجاوز قرى وبلدات الشريط الحدودي إلى عمق منطقتي الجنوب والبقاع وضاحية بيروت وصولاً إلى كسروان وجبيل، في موازاة تكثيف عمليات اغتيال كوادر وقادة حزب الله، الأمر الذي ساهم في تزخيم مخاوف اللبنانيين المشروعة حول مصير بلدهم، وما تبقى من مؤسسات دولتهم ومستقبلهم.
الانقاذ الصعب
إن لبنان واللبنانيين هم الآن تحت وطأة حرب طاحنة، وأمام تحديات ومخاطر مصيرية غير مسبوقة، ربما هي الأخطر في تاريخهم المعاصر. تحديات لم يعد فيها مكان لقواعد الاشتباك وتضخيم خسائر العدو، في ظل ما يتساقط من صواريخ وقنابل متفجرة على رؤوس اللبنانيين وبيوتهم وأحيائهم. ومخاطر لا تواجه بتكرار تهديدات قادة حزب الله للعدو الاسرائيلي، أو بمعادلات القصاص العادل والحساب المفتوح. في مواجهة حربه المفتوحة على لبنان، ولا يفيد فيها الاصرار على ربط مصير لبنان بمآلات مغامرة قادة حماس، التي اطاحت بقطاع غزة المحاصر وقد كان محرراً من الاحتلال. وهي الحرب التي يفاقم من مخاطرها الفراغ الرئاسي والانقسام السياسي والطائفي، والانهيار الاقتصادي والمالي وشلل مؤسسات الدولة وأجهزتها، وحالة الفوضى السياسية والامنية المرشحة للاتساع مع تصاعد الحرب وتصعيد عمليات القتل والتهجير والتدمير.
لا جدال في أن الحرب تهدد كل لبنان بالدمار والخراب. ومسؤولية الحد من خسائرها وأفشال أهدافها تقع على عاتق جميع اللبنانيين قوى سلطة ومعارضة، ولا تقع على أي دولة أو جهة خارجية.. لقد سقطت تباعاً كل الرهانات على الخارج، ولم يعد امام اللبنانيين سوى التضامن فيما بينهم، للتخفيف من وطأة هذه الحرب العدوانية ومضاعفاتها، والمبادرة لصياغة التسوية التي تحفظ وجودهم وتنقذ وطنهم.
إن اطراف السلطة كافة بما فيهم حزب الله ليس أمامهم سوى المبادرة إلى التلاقي والعودة إلى تحمل المسؤولية التي تخلواً عنها، والتحصن بالقرارات الدولية وباتفاقي الهدنة مع اسرائيل والطائف فيما بينهم، والمسارعة إلى التخلي عن المغامرات والفئويات والرهانات والحسابات الخاطئة، والابتعاد عن المزايدات وتبادل تهم الخيانة والتآمر باعتبارها اقصر الطرق لتمكين العدو الاسرائيلي من تحقيق اهداف حربه.
إن المصلحة الوطنية الآن تقضي بمواجهة أهداف الحرب بالاستناد إلى ما يجمع اللبنانيين من مشتركات ولا يفرق بينهم، وهي الطريق الوحيدة التي تحول دون تفكك وشرذمة البلد. وهي مدخل انقاذه وبقائه وطنا موحداً لجميع ابنائه قبل فوات الأوان، ولات حين مندم.
Leave a Comment