ليست الهجرة أمراً طارئاً على لبنان. منذ زمن التتريك والمجاعة عام 1914، سجلت حملات متتالية من الهجرة، الأقرب إلى التهجير جماعيا وإفراديا. وقد تسببت الحرب اللبنانية عام 1975، بموجات من التهجير المناطقي، دفعت أعداداً كبيرة من اللبنانيين إلى ترك بلدهم والتوجه إلى المغتربات، خصوصا في كندا وأميركا والبرازيل والمكسيك وأوستراليا، ودول أخرى بعيدة نسبياً، بعكس الهجرة إلى أوروبا للميسورين، والتي تبقى موقتة نظراً إلى قرب المسافات وإمكان العودة تكراراً، ولو للزيارات العائلية.
وزادت فصولها مع حربي “التحرير” و”الإلغاء” بين “الأخوة”، نظرياً، داخل المجتمع المسيحي. وشكل الانهيار الكبير عام 2019 دفعاً لعائلات خسرت كل ما تملك للبحث عن مغامرات جديدة في الخارج. وهجرت عائلات كثيرة إثر انفجار مرفأ بيروت عام 2020، بدافع اليأس من بلد تحكمه ثلة هاربين من العدالة.
ليست الهجرة طارئة على المجتمعات، لكنها محدودة في الزمان والمكان، بعكس ما يحصل عندنا، إذ تحولت حلماً يراود معظم العائلات، وخصوصا الشباب الأكثر كفاية وعلماً.
تبين أرقام “الباروميتر العربي” من جراء استطلاع آراء 2400 مواطن ومواطنة من لبنان، بين شباط ونيسان 2024، وقائع تشتد خطورتها مع الأيام.
فقد أعرب 38% من اللبنانيين عن الرغبة في الخروج من لبنان. وهي نسبة أعلى بواقع 12 نقطة مئوية عن نسبة 26% المسجلة في العام 2018.
وفي الأرقام أن الشباب والمتعلمين جامعياً هم الأكثر طلباً للهجرة، إذ تحدث 58% ممن تراوحت أعمارهم بين 18 و29 عاماً عن تلك الرغبة، وهي النسبة التي تُعد ضِعف مثيلتها بالنسبة إلى الفئة العمرية 30 عاماً فأكبر. ويميل من حصّلوا التعليم العالي أكثر إلى الهجرة مقارنة بالأقل تعليماً (46% مقابل 33%).
وتبين الدراسة أن الظروف الاقتصادية تستمر المسبب الأساسي للهجرة، فما من مواطنين يصنفون الوضع الاقتصادي بصورة إيجابية أو يتوقعون تحسّنه، ولم يكن من المدهش أن نحو 7 من كل 10 أشخاص من الراغبين في الهجرة بلبنان (72%) ذكروا الظروف الاقتصادية بصفتها المحرك الأول لرغبتهم. وقد أدى الانهيار المالي والاقتصادي عام 2019 إلى خسارة المودعين أموالهم، والمتقاعدين تعويضاتهم، والعاملين قيمة رواتبهم.
ولا تغيب القضايا الأمنية والسياسية عن المسببات. فالمخاوف الأمنية – التي زادتها الحرب الدائرة جنوباً وتمددت إلى البقاعين الشمالي والغربي – ارتفعت نسبتها لتصبح ثاني أكثر سبب ذكره اللبنانيون، بواقع 27% من المهاجرين المحتملين في 2024 – بزيادة 14 نقطة مئوية عن 13% في 2022.
ووفق الدراسة، برزت الشواغل حول الفساد كدافع قوي للهجرة، إذ أصبحت نسبة من قالوا إنه سبب أساسي للرغبة في الهجرة 24% في 2024، بعدما كانت 16% في 2022. وبالمثل، فإن نسبة اللبنانيين الذين يرغبون في الهجرة وذكروا القضايا السياسية سبب لها، قد زادت من 16% في 2022 إلى 23% في 2024.
إلى ذلك، يتزايد إقبال الشباب على البحث عن فرص تعليمية أفضل في الخارج. تُظهر البيانات الحديثة أن 21% أعربوا عن الرغبة في الهجرة من أجل التعلم في 2024، وهي النسبة التي زادت من 14% في 2022.
هذه الأرقام ستمرّ في شكل عابر، من دون التوقف عندها في بلد لا يقيم للأرقام أي اعتبار، بدليل الكلام على فجوة مالية بمئة مليار دولار، وتعداد ضحايا انفجار المرفأ والحرب في الجنوب كأرقام لا أكثر.
* نشرت في جريدة النهار بتاريخ 23 آب 2024
Leave a Comment