*ميشلين مبارك
شاع في الآونة الأخيرة موضوع تمكين المرأة، وقصص الجندرة والكوتا النسائية. وقد تعدّدت المقولات والمشاريع بعضها تبعًا لأجندات محلية أو عالمية، وبعضها لأهداف شخصية. ما يهمنا في هذا الإطار هو المرأة بحدّ ذاتها كقوة داعمة ليس فقط للرجل، بل لأبنائها وشعبها ووطنها وحتى للعالم. المرأة المثقفة الواعية الحكيمة القائدة والتي تسعى لتحقيق أحلام غيرها وأحلامها.
وقد شاهدنا عبر التاريخ أمثلة كثيرة عن قصص نجاح المرأة على الصعد السياسية والفكرية والاقتصادية، ونشهد كل يوم في عائلاتنا قصص نجاح المرأة في مجتمعاتنا. أمّا إظهار فشلها في بعض القصص فقد يكون عائدًا إلى التأثير السلبي للرجل في حياتها، أو تربيتها التي تعكس شخصيتها، وربما للمرأة بذاتها التي لم تمكّنها ظروفها من تحقيق ما تصبو إليه. ولا بدّ من الإشارة إلى أننا لن ندخل في ظاهرة “الرجال من المريخ والنساء من الزُهرة”، كما في اسم الكتاب الشهير الذي يعتبر من الكلاسيكيات الحديثة المهمة للكاتب جون غراي. بل سنتناول في هذا المقال، أهمية المرأة ونجاحها على الصعيدين الفكري والأدبي وبالتالي إعلاء شأن الرجل بفضل المرأة
في عام 1929 نشرت الروائية فيرجينيا وولف مقالة بعنوان A Room of One’s Own (غرفة خاصة بك) تساءلت فيها عن عدم وجود أعمال أدبية أو قصائد كتبتها نساء خلال زمن شكسبير، لتستنتج أنه “من المستحيل معرفة ما إذا كان أي من هؤلاء “المؤلفين المجهولين” من النساء، لأنّ ما نعرفه هو أن العديد من المؤلفات والكاتبات لم يتمكنوا من توقيع أسمائهنّ الحقيقية بسبب قيود العصر، أو الموضوعات التي كانوا يكتبون عنها أو الأنواع الأدبية التي كانوا مهتمين بها. بدلًا من ذلك، استخدموا أسماء مستعارة من الذكور لتجنّب الحكم عليهن”. في ذلك نرى أنّ الإبداع الأدبي النسائي ساهم بشكل كبير في تاريخ الأدب العالمي. لكنّ العديد من الأسماء بقيت طيّ الكتمان، وبعض الهويات الحقيقية كُشفت مع الوقت.
ومن الأمثلة على تلك النصوص الكلاسيكية: أعمال الروائية الإنكليزية ماري آن إيفانز التي اشتهرت في القرن التاسع عشر تحت اسم مستعار “جورج إليوت”، وقد أُعجب الكاتب الشهير تشارلز ديكنز برواياتها، وكان من بين القلائل الذين اشتبهوا في الحقيقة وراء الاسم المستعار الذكري. وبعد نجاحات روائية متعدّدة، ظهرت هوية ماري آن الحقيقية وأحدثت ضجة.
ومن الأمثلة المثيرة أيضًا، الكاتبة الإنكليزية ماري شيلي التي عاشت طفولة صعبة على الرغم من شهرة والدها ككاتب وفيلسوف إنكليزي (وليم غوديون)، والذي أتاح لها القراءة والكتابة منذ الصغر. في السادسة عشرة من عمرها قرّرت شيلي الهروب عام 1814 مع الشاعر الشهير بيرسي بيش شيلي (على الرغم من أنه كان متزوجًا) وعاشا في علاقة حبّ حرة قبل أن يتزوجا عام 1816 (بعد أن انتحرت زوجته الأولى). عاشت ماري مصائب وحياة شخصية مضطربة، وقرّر الزوجان إثر دعوة من صديق هو الشاعر اللورد بايرون السفر إلى سويسرا. وعلى الرغم من أنّ الطقس كان صيفًا، إلاّ أنّ المطر المفاجئ والعواصف الرعدية أبقاهما لعدة أيام في المنزل الفاخر. عندها أتت الفكرة للورد بايرون بأنّ على كل شخص أن يكتب قصة رعب من شأنها أن تخيف الآخرين وتصدمهم. وبعد عدة محاولات، توصلت ماري إلى اختراع أولى قصص الخيال العلمي وربما أكثر الوحوش شهرة في الأدب وهي صورة فرانكشتاين، الصورة التي حملت دلالات عميقة وتركت انطباعًا مخيفًا ومدهشًا على مجتمع القرن التاسع عشر. وقد نشرت الرواية الأولى لفرانكشتاين في عام 1818 تحت اسم مستعار. ثم ما لبثت أن عُرفت ماري شيلي فيما بعد، خصوصًا بعد تشجيع زوجها على الكتابة في العديد من المواضيع منها أدب الرحلات والسير الذاتية للشعراء وغيرها. وقد صاغت ووثّقت قصائده وأعماله الأدبية بعد وفاته.
أمّا في عالمنا العربي، فهناك العديد من الكاتبات اللاتي كنّ يوقّعن أعمالهن الأدبية بأسماء مستعارة منهن: الكاتبة اللبنانية زينب فواز التي كانت توقّع كتاباتها تحت اسم “درّة الشرق”. وتُعتبر روايتها الأولى “حسن العواقب أو غادة الزهراء” (1899) أول رواية تكتبها امرأة عربية. بحيث اشتهرت بشجاعتها في انتقاد معايير المجتمع، ودعم الإرادة الحرة المستقلة للمرأة وحقها في اتخاذ قراراتها الخاصة في الحياة. ومن الأمثلة الشهيرة أيضًا الأديبة مي زيادة التي كانت توقّع، في بداياتها، أعمالها تحت عدّة أسماء مستعارة خوفًا من الحكم على مقالاتها بطريقة ظالمة.
في خمسينيات القرن العشرين، كانت هناك رواية تسمى “الفتيات الصغيرات” وقد اكتسبت شعبية كبيرة في تركيا. وكانت هوية المؤلف الاسم المستعار “فنسنت يوينغ”. قرأ الناس الكتاب لسنوات تحت انطباع بأن هذا الرجل الأميركي المجهول هو المؤلف، حتى تمّ الكشف عن أنه كان في الواقع نهال يجينوبالي – وهي كاتبة ومترجمة تركية. وعندما سئلت عن سبب إخفاء هويتها، قالت: “كانت هناك درجة كبيرة من الإثارة الجنسية في الرواية التي اعتُبرت غير مناسبة لامرأة شابة مثلي. لذلك اخترت اسمًا مستعارًا للذكور”
في الفيلم الأميركي The Wife شاهدنا الكاتبة الزوجة (تمثيل غلين غلوز) تكتب القصص والروايات فيضع زوجها (تمثيل جوناثان بريس) اسمه على الأعمال الأدبية ليحصد في الختام جائزة نوبل في الأدب لعام 1992
ومن الأمثلة المعاصرة جي كي رولينغ، الكاتبة الأكثر مبيعًا في المملكة المتحدة بفضل سلسلة هاري بوتر. وهي التي فضّلت في عام 2013 استخدام اسم مستعار في إصدار روايتها الجديدة التي لم تلق الرواج، بهدف الحصول على تقييم صادق وحقيقي، غير أن الرواية ما لبثت أن ازدادت مبيعاتها بمجرّد الكشف عن هوية صاحبتها الحقيقية.
تاريخيًا، اختارت الكثير من النساء استخدام أسماء مستعارة، بسبب التحيّز الجنسي في صناعة النشر، كنّ يأملن في أن يساعدها اسم ذكر أو محايد بين الجنسين على النجاح في مجال وعالم يُهيمن عليه الذكور. لذلك نرى أنّ بعض أهم الكتب في الأدب كتبتها نساء شعرن أنهن لا يستطعن النشر بأسمائهن.
في سياق متصل، تأتي عبارة: “وراء كل رجل عظيم امرأة” لتؤكد على أنّ نجاح الرجل يعتمد بشكل أساسي على دعم المرأة، ولقد لعبت النساء أدوارًا حاسمة في دعم الرجال وإعلاء شأنهم على حساب سعادتهن وحياتهن المهنية. وبرهنت الكثير من الأعمال الأدبية تلك الحقيقة. وقد تناول الفيلم الأميركي “الزوجة” The Wife (2017) هذا الأمر بطريقة حزينة حيث شاهدنا الكاتبة الزوجة (تمثيل غلين غلوز) التي كانت طوال الوقت تكتب القصص والروايات فيضع زوجها (تمثيل جوناثان بريس) اسمه على الأعمال الأدبية ليحصد في الختام جائزة نوبل في الأدب لعام 1992.
“اختبأت العديد من الأسماء النسائية العربية والعالمية خلف أسماء ذكورية، ولا شك في أنّ هناك أعمالًا أدبية وقصائد فقدتها البشرية بسبب خوف النساء من إعلان أسمائهنّ الحقيقية. وكم منهن غادرن هذه الحياة قبل أن يرين أسماءهن على الكتب أو في الصحف.
مما لا شك فيه أنّ المرأة بشكل عام كانت الملهمة الأساسية لأعمال الشعراء والكتّاب. وقد يكون مضى الزمن على المقولة المذكورة آنفًا، وبعض الأصوات ترفضها لأنّها تعتبر بأنّ المرأة أصبحت في الصفوف الأمامية، سواء في الجوائز الأدبية أو في الأعمال الفكرية المعاصرة. هذا ما يجعلنا نسترجع أسماء العديد من النساء والفتيات اللاتي شكّلن مصدر تأثير للكثيرين والكثيرات في عصرنا، ومنهن توني موريسون، إحدى أشهر الأسماء في الخيال المعاصر وأول إمرأة أميركية من أصل أفريقي تفوز بجائزة نوبل في الآداب قائلةً: “إذا كان هناك كتاب تريد قراءته، لكنه لم يُكتب بعد، فعليك كتابته”.
بالإضافة إلى الناشطة الباكستانية ملالا يوسفيزي التي تعرّضت لعملية اغتيال وهي تعمل وتطالب بتعليم الأطفال في بلدها، وتُعتبر أصغر امرأة حازت على جائزة نوبل للسلام (في عمر 17 عامًا) وغيرهما كثيرات وبعضهن مجهولات تعملن بصمت.
اختبأت العديد من الأسماء النسائية العربية والعالمية خلف أسماء ذكورية، ولا شك في أنّ هناك أعمالًا أدبية وقصائد فقدتها البشرية بسبب خوف النساء من إعلان أسمائهنّ الحقيقية. وكم منهن غادرن هذه الحياة قبل أن يرين أسماءهن على الكتب أو في الصحف. ومن هنا تأتي أهمية النضالات النسوية التي خاضتها المرأة الأديبة والصحافية والشاعرة للوصول إلى ما وصلت إليه النساء اليوم.
عن هذا الموضوع، التقينا سيدتين كان لهما تأثير إيجابي على مجتمعهما من خلال كتاباتهما وفكرهما:
الأديبة إقبال الشايب غانم التي شاركت منذ بدايات أعمالها الأدبية في النضال النسوي إن عبر القصص والروايات التي كتبتها، أو عبر مشاركتها في “المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين” (في عام 1995) مع غيرها من المناضلات اللبنانيات أمثال ليندا مطر، لور مغيزل، نور سلمان، ابتهاج قدورة[1] وغيرهن.
تقول الشايب غانم: “في تجربتي الأدبية ونضالي النسوي لم أميّز بين الرجل والمرأة، بل قضيتي هي الإنسان، وخصوصًا تعليم المرأة، وقد ترجمت ذلك في كتاباتي التي تظهر معاناة المرأة وخصوصًا في الحرب”. وبرأي غانم، فإنّ ظلم المرأة قد يأتي من المرأة نفسها، ولكن هناك الكثير من الرجال الداعمين لقضيتها، الأمر الذي ساهم في نجاح النضال النسوي اللبناني في جعل التعليم الأساسي للإناث بمستوى الذكور أو ربما أكثر. ولكن يبقى الظلم الذي يطاول المرأة بالنسبة للأحوال الشخصية في لبنان.
وتضيف الشايب غانم: “هناك رجال ناصروا المرأة واستطاعوا إيصال قضيتها ولا شك في أن المرأة العربية أثبتت نفسها بعلمها. أنا ضد القول ‘الكتابة النسوية والكتابة الذكورية‘ لأن كل مثقف يتناول قضايا المجتمع على طريقته. وكل مؤلفاتي وضعت فيها قضية المرأة ومعاناتها خلال الحرب في سلم أولوياتي”.
أمّا الكاتبة والدكتورة ليليان قربان عقل فأكدت أنه “من خلال متابعتها لدور المرأة العربية ومساهماتها في تفعيل الحركة الفكرية العربية الحديثة التي شكّلت الصحافة مهد انطلاقتها وأسهمت في مركزية حضورها الاجتماعي والمحوري لتألّقها في التمايز عن الرجل، وبالتالي في محاولاتها تقديم نهج أدبي مختلف عن الرجل، تبيّن أنّ الحركة النسوية اتّصفت بالنضالية وبالسعي إلى تكوين الشخصية التحرّرية وذلك من خلال كتاباتها التي حملت قضايا اجتماعية ونسوية، وكان الأدب الوسيلة الفضلى للتعبير عن ذلك”. وترى عقل، ومن خلال تجربتها كأستاذة جامعية في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، أنّ “المطلوب من المرأة الكثير من العلم والمعرفة والثقة بالنفس لكي تستطيع ترسيخ العلاقة التكاملية مع الرجل، وكسر الصورة النمطية التي رسّختها العادات والتقاليد. من هنا ضرورة أن تكون للمرأة استراتيجية فكرية لدورها الفاعل في نهضة المجتمعات، لأنّ دورها أساسي وهي لا تتحدى الرجل، بل تتكامل معه”.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 15 آب / أغسطس 2024
[1] – ورد اسم المناضلة النسوية ابتهاج قدورة رئيسة الاتحاد النسائي العربي خطاً من جانب الكاتبة، هنا لأنها توفيت في العام1967 ،أي قبل انعقاد المؤتمر بـ 28 عاما ( المحرر)
Leave a Comment