* عمر قدور
هناك اليوم قناعة منتشرة بين سوريين ولبنانيين مفادها أن الفلسطينيين أهدروا فرصاً أفضل للتسوية مع إسرائيل، وأنهم يواظبون على فعل ذلك، وعليه فإن ما هو متاح اليوم قد لا يكون متاحاً غداً. وبدأ تشكّل هذه القناعة قبل ثلاثة عقود أو أكثر قليلاً، من خلال طرح آراء غير تقليدية إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومن خلال ما يبدو أنها مراجعات لوقائع الماضي قُدِّمت بوصفها ثورية بالمقارنة مع السردية القومية أو اليسارية للصراع.
العيب الأكبر في الأطروحات الجديدة، والمتجددة مع الحرب الحالية، أن أصحابها لا يقدّمون وعياً جديداً واقعياً للسلام. هم فقط يخاطبون الجانب الفلسطيني أو العربي، هم بالأحرى يوبّخونه، وكأنّه المسؤول الحصري عن إعاقة السلام في المنطقة. ذلك يتضمن، بلا إعلان صريح، جهوزية الجانب الإسرائيلي للسلام، فضلاً عن تبرئته من المسؤولية عمّا مضى.
ما نذهب إليه ليس نقضاً للسعي من أجل السلام، فالنزوع إلى السلام يجب أن يكون القاعدةَ المستدامة. ولكي يكون النزوع مستداماً حقاً، يجب أن يُبنى على معطيات قريبة من الواقع، لأن رواج أي رأيٍ شديدِ الانتقائية سيعزّز وعياً مفارقاً للواقع. وإذا كان النقد الدائم الموجَّه للعرب، والصائب إلى حد كبير، مبنيٌّ على المسافة الشاسعة بين شعاراتهم وإمكاناتهم فإن أصحاب هذا النقد لا يقدّمون نموذجاً أفضل إذ يتجاهلون إسرائيل بوصفها الأشد تأثيراً، وهي في كل الأحوال الطرف الذي يُفترض أن يكون شريكاً في السلام، والطرف الذي يُفترض أن يُوجَّه إليه خطاب السلام الفلسطيني أو العربي.
ما تقوله الوقائع أن أول أعمال العنف التي ارتكبتها الميليشيات الصهيونية خارج فلسطين، هو اغتيال اللورد موين في نوفمبر1944، وهو عنف تأسيسي لأنه استهدف شخصية مقيمة على أراضي مصر التي لم تكن حتى ذلك التاريخ قد انخرطت في الصراع. جدير بالذكر أنه كان للحركة الصهيونية وجود بارز في مصر، وفي ثلاثينات القرن الماضي تكررت إليها زيارات حاييم وايزمن بصفته رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، بل كان أنصار المنظمات الصهيونية المصرية يحتفلون علناً كل سنة بذكرى وعد بلفور، وصولاً إلى أعمال العنف التي استهدفت يهوداً ومنشآت يهودية في ذكرى الوعد التي صادفت مرور سنة من اغتيال موين، ولا شكّ في أنها أحداث أسوأ من توصف فقط بالمؤسفة؛ بمجرياتها ونتائجها.
أثنت الصحافة المصرية آنذاك على أمين الشرطة الذي قبض على قاتلَي موين، باعتباره “أنقذ سمعة مصر”. وحتى ذلك التاريخ كانت مصر منشغلة بهمومها الوطنية، ولم يكن للقومية العربية وقضاياها حضور في الوعي والوجدان العامّين المصريين. يمكن شرح حجم الإحساس المصري بالإهانة بكون البلد الأكبر في المنطقة قد تعرّض لاعتداء من ميليشيات، فلم يُفهم ذلك إطلاقاً كشأن ثنائي بين الصهاينة ولندن.
في أواخر نوفمبر1947 صدر عن الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين، فرفضه العرب، لكن لم يصدر عن الميليشيات الصهيونية ما يفيد بقبولها القرار، ولم يصدر عن العواصم الكبرى ما يفيد بعزمها على تنفيذ القرار رغم معارضة الطرفين. بين هذا التاريخ ومنتصف مايو1948 كانت الميليشيات تعدّ للحرب في مواجهة القوات العربية التي، رغم توافدها من ست دول عربية، كانت أقل عدداً وأدنى تسليحاً واستعداداً. الأهم من ذلك أن أساتذة الميليشيات الصهيونية الذين وقعوا على بيان “استقلال” إسرائيل لم يشيروا إلى حدود دولتهم، ما يضمر عدم الاعتراف بقرار التقسيم، وسيدعم ذلك سيطرتهم بنهاية الحرب على 60% من أراضي الدولة الفلسطينية بموجب قرار التقسيم.
لا تُسجّل حوادث اعتداء على إسرائيل خلال السنوات اللاحقة، رغم الصورة الرائجة عن تصاعد المدّ القومي العربي مع انقلاب الضباط الأحرار، وكانت القوات الإسرائيلية هي المبادرة في غالبية المناوشات الحدودية التي أعقبت هدنة 1949. أما موقف عبدالناصر، فكان يطالب إسرائيل بالقبول بحدود التقسيم، وهو ما ظهر في تحفظه على دعوتها إلى مؤتمر باندونغ حتى تقبل بذلك، أي أنه لم يكن، وفق الصورة الكاريكاتورية الرائجة، ينوي إلقاء “اليهود” في البحر. أما أفكار وزير الخارجية الأميركية آنذاك، جون فوستر دالاس، السلمية فكانت تهدف إلى اجتذاب عبدالناصر ضمن الحرب الباردة، ولم ترقَ إلى مبادرة سلام.
مرة أخرى سيأتي العدوان على مصر “بحجمها ورمزيتها” من الجانب الإسرائيلي، حيث شاركت تل أبيب في العدوان الثلاثي بعد ثماني سنوات على هدوء الجبهات العربية بعد حرب 1948. وقد غطّى ما ظهر كانتصار مصري، على دلالات المشاركة الإسرائيلية في العدوان، وعلى العموم بقيت الجبهات هادئة، وربما هذا ما دفع الفلسطينيين الذين سئموا انتظار الدعم العربي إلى تأسيس حركة فتح في مستهل العام 1965. وفي ردّ على العمليات الفدائية، غير متناسب إطلاقاً مع خطرها، نفّذت إسرائيل عدواناً على سوريا ومصر والأردن العام 1967، واحتلت مزيداً من أراضي هذه الدول إلى جانب الأراضي الفلسطينية بأكملها.
أتت لاءات الخرطوم بعد سجل حافل من الاعتداءات واحتلال الأراضي العربية، وهي الشعارات الأكثر تطرفاً بنصّها: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض. مع أن مقررات مؤتمر القمة العربية نفسه في الخرطوم، دعت إلى عودة إسرائيل إلى ما صار يُسمّى بخطوط الرابع من حزيران، بما يشي بقبول الحكومات المجتمعة بتلك الحدود كأساس للتسوية. وعلى هذا الأساس، قبِل عبدالناصر بمبادرة روجرز، أواخر 1969، ونصّت في شقّها الأول على وقف حرب الاستنزاف، بينما نصّ شقّها الثاني على إحلال السلام على قاعدة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب الأخيرة. في هجاء العرب، قيل أنهم رفضوا مبادرة روجرز، وكأنهم كانوا سبب فشلها، مع أن عبدالناصر “الزعيم الأكثر شعبية لدى العرب” قبِل بها، ومع أن إسرائيل هي التي رفضتها فوراً، ثم قبلت لاحقاً الشق المتعلق فقط بوقف حرب الاستنزاف.
في أكتوبر 1973 شن الجيشان المصري والسوري هجوماً على الجانب الإسرائيلي، وبصرف النظر عن مجريات المعارك، فإن حافظ الأسد كان صريحاً في خطاب له أواخر العام نفسه، بإعلان السلام خياراً استراتيجياً. من جهته، لم يكن السادات يخفي هدفه الرئيسي من الحرب المتعيّن بتحريك مياه المفاوضات الراكدة بعد إفشال إسرائيل مبادرة روجرز، أي أن القائدين العربيين اللذين خاضا الحرب كان صريحين جداً في إعلان نوايا السلام، ومن المبالغة إهمال ذلك وإعلاء شأن تصريح من هنا أو هناك. بعد سنة ونيّف، سينضم ياسر عرفات، بصفته رئيس منظمة التحرير، لإعلان تفضيله خيار السلام. ومن على منبر الأمم المتحدة قدّم خطاباً بعيداً كل البعد من ذلك الكلام العامّي عن رمي اليهود في البحر(!) وكرر رؤية منظمة التحرير التي تنص على فلسطين كوطن واحد للفلسطينيين ولكافة اليهود الموجودين فيها.
جدير بالذكر أن حزب العمل الإسرائيلي، بتعدد تسمياته، كان الحاكم بين العامين 1948 و1977، أي أن توسّع إسرائيل وعدم إفصاح مسؤوليها عن أي توجه نحو السلام كان في زمن الحزب المحسوب على معسكر الحمائم. وفي أواخر 1977 سيقبل مناحيم بيغن، رئيس الحكومة اليميني المتطرف، جزءاً من مبادرة أنور السادات للسلام، مستثنياً الانسحاب إلى خطوط 1967. كانت الصفقة مغرية بالانسحاب من سيناء مقابل السلام مع أكبر بلد مجاور، لكن إبرامها لم يترافق مع أية ليونة إسرائيلية تجاه الفلسطينيين تجعل رافضي مبادرة السادات من العرب والفلسطينيين يعيدون النظر في رفضهم.
صعد مناحيم بيغن إلى رأس هرم الحكم قبل عشر سنوات من تأسيس حركة حماس، ومنذ ذلك التاريخ لم يفقد اليمين واليمين المتطرف السلطة، إلا لسنوات قليلة بين العامين 1992 و1996، وبين 1999 و2001. وقوى اليمين الحاكم جاهرت بعدائها للسلام عموماً، وبعدائها لاتفاقيات أوسلو ونيتها التنصل من الحل النهائي المنصوص عليه فيها، بينما واظب الرئيس عرفات وورثته في السلطة على التمسك بالاتفاقيات.
لعل العرض السابق يوضّح أن الإسرائيليين لم يمتلكوا خطاباً للسلام، باستثناء سنوات قليلة انتعشت فيها حركة ميريتس وحركة “السلام الآن”، بينما كان السلام مطلباً معلناً للقوى العربية الكبرى المحيطة بإسرائيل. وكان القادة العرب في قمة القاهرة 1996 قد اتفقوا على أن السلام خيارهم الاستراتيجي، ثم أقروا مبادرة عربية للسلام في قمة بيروت 2002. مع ذلك ليست الغاية من هذا العرض إثبات عدوانية إسرائيل، أو عدم قابليتها للسلام، وما قد يُبنى بتسرّع على هذا الاستنتاج.
الأكيد في كل ما سبق أن العرب “كوعي شعبوي” رفعوا شعارات تفوق إمكاناتهم، وهي شعارات لا تعكس الرأي الرسمي الذي له الثقل الأكبر كما رأينا في حالة عبدالناصر ثم السادات. وفي كل الأحوال يظهر مطلب السلام المستند إلى قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران1967 مطلباً عربياً، بينما لا يوجد مشروع سلام إسرائيلي له ثقل مماثل. هذا يعني الآن وغداً توجيهَ خطاب سلام إلى جمهور إسرائيلي بمعظمه لا يرى السلام استحقاقاً ملحّاً، بينما وقفت الغالبية منه في العقود الأخيرة خلف اليمين الحاكم الذي يرفض السلام، ويرفض بحزم قيام دولة فلسطينية مهما كانت. جانب أساسي من الميل الإسرائيلي تفسّره وضعية الأقوى الذي لا يرى ضرورة لتقديم أي تنازل، بل إن فائض القوة يدفع في اتجاه نسف ما سبق من جذوره، فالحديث عن تهجير الفلسطينيين كحل نهائي ليس على سبيل التخويف فحسب.
ضمن ميزان القوى ذاته، يبدو من الضروري بروز خطاب سلام فلسطيني، رغم استحالة تحقيق السلام لعدم وجود شريك إسرائيلي في المدى المنظور. ولا نغامر بالقول أن واقعية هذا الخطاب تأتي بالتلازم مع سقف التوقعات المنخفض جداً، أي بلا أوهام حول الجهوزية الإسرائيلية للسلام التي يوحي بها عرب يتحدّثون عن السلام، وكأن الشريك الإسرائيلي جاهز ومتلهف لصنعه، ولا ينقص سوى تقريع الفلسطينيين والعرب وحثّهم على ملاقاته.
كنا قد أشرنا في مقال سابق إلى “تفويت الحرب على غزة كمناسبة للتعلّم”، والمرجوّ من ضمن ذلك تجاوز نغمة التقريع إلى إحاطة أوسع. جدير بالتذكير أن هذه النغمة التي يظنّها أصحابها جديدةً، لها إرثٌ لا يقلّ عمره عن مئة عام، بدءاً من التقريع الذي ظنّ أصحابه أنهم يحرّضون به على النهضة، مروراً بتقريع الجماهير لأنها غير عروبية بما يكفي عموماً، أو بما يلزم لتحرير فلسطين، أو لأنها لم تكن ثورية على نحو ما كان يشتهيه اليسار، أو غير مؤمنة بما يُرضي الإسلاميين. وفي معظم الأحوال، أدّى هذا النموذج التقريعي وظيفة لأصحابه كـ”نخبة” أو أفراد يتبرّأون من وعي يدّعون أنه معمّم، من دون فائدة أخرى تُذكر.
* نشرت على موقع المدن الالكتروني بتاريخ 13 آب 2024
Leave a Comment