*عباس بيضون
“عدوّ الشعب”، مسرحية إبسن الشهيرة، تُعرض للمرّة الثانية في العام على مسرح “الجامعة الأميركية” ببيروت. المسرحية، التي أخرجها لوسيان بورجيلي ومثّل فيها جوقٌ من الممثّلين يتصدّرهم فرح شاعر، عبد السلام عوجي، زياد نجار، هي هذه المرّة، وبشكل استثنائي، غير المسرحيات التي تُعرض حالياً في بيروت، هذه الآن، بخاصّة إذا عُدنا الى مسرح يحيى جابر. هي عبارة عن مونودرامات.
الأرجح أنّ السبب في حشد من الممثّلين تجاوز الثلاثين، يعود الى أنّ المسرحية صادرة عن فرع المسرح في “الجامعة الأميركية”. هنا نجد الممثّلين بكثرة ما داموا في عمل جامعي، ولا يحتاجون إلى تمويل كبير. هذا الحشد من الممثّلين كان ضرورة إخراجية، إذا اقتضى الإخراج الإيحاء بالشعب، هذا الإيحاء كان مركز رؤية تطلّبت هذه الكثرة من الممثّلين، الذين نُصادفهم داخل العرض، وعلى أطرافه وحواشيه؛ إذ يمكن القول إنّ الجمهور الذي حضر، كان بحسب هذه الرؤية، مشتركاً في اللعبة.
المسرحية تروي قصّة العالِم الذي اكتشف، بعد تحاليل مخبرية، أنّ المياه في القرية ملوّثة تُسمّم الأهالي. هذا الاكتشاف هاله، فعزم على التصريح به، وطرحه على الناس. من علموا به، وهم كثيرون، بحسب الإيحاء الإخراجي، بحيث يكاد يتراءى لنا أنّهم كناية عن الشعب، شجّعوه على عرضه. لكن هذا مضادّ لمصالح البلدية، التي يصادف أنّ رئيسها أخو العالِم. هكذا يحاول الأخ أن يغري أخاه بالسكوت عن ذلك، بوسائل إحداها شراؤه، وإدماجه في المؤسّسة الراعية لهذا المرفق، المستفيدة منه.
رغم أنّ المكان قرية والبلدية بلدية قرية، لكن المسرحية ليست، بأيّ حال، بهذا التواضع، ولا يمكن اعتبارها ريفية. لا يخفى على المُتابع أنّ القرية كناية عن المجتمع والبلدية كناية عن الدولة، وأهاليها كناية عن الشعب. في البدء يستنفر العالِم الذي قد يكون كناية عن مثقّفين، الجمهور. لكنّ النظام لا يلبث أن يتحرّك، ولا يلبث أن يعمل. هكذا تنقلب الصورة. سيكولوجية الجماهير، كما يحمل مؤلَّف غوستاف لوبون هذا العنوان، هي موضوع المسرحية.
الجمهور أو الشعب جزءٌ من نظام المصالح العليا تعمل فيه، مصالح سلطة ومال في مواجهة حشود يسهل اجتلابها، ويسهل خداعها والكذب عليها. إنّها فتنة الكلمات الكبيرة، والدعاوى التي تتقبّلها بعمىً بالغ. إبسن في مسرحيته يتبنّى رؤية كهذه للشعب والجمهور، هكذا تنقلب الأمور في النهاية. لا يُسمح للعالِم بعرض حقائقه، ويثور عليه الناس، ويوصَم في النهاية بأنّه عدوّ الشعب.
مسرحية “عدوّ الشعب” هي أيضاً الرؤية الإخراجية التي اعتمدتها. يبدأ المسرح منذ اللحظة التي يصل فيها المُشاهد إلى الجامعة. تبدأ المسرحية، يتجمّع المشاهدون في مكان واحد، ينتظرون، ثم يأتي واحد يقودهم إلى مكان حول شجرة ضخمة. ينتظرون هناك في حضور عازف على الفيولون، لينسربوا بعد ذلك في طريق ضيّق، يصعدون فيه ويهبطون إلى أن يصلوا إلى مكان دائري، حيث يجدون عازف الفيولون، وحيث تبدأ المسرحية، لكي ينتقلوا بعد فصلها الأوّل، إلى مكان يصادفون على طريقه أشخاصاً، يتكلّمون من ضمن المسرحية. هكذا يواصلون الانتقال بين أمكنة تتفاوت في سعتها وضيقها، أحدها ضيّق. نفهم عندئذ أنّهم، من حيث لم يقصدوا، جزء من المسرحية.
هذه تبدأ من أوّل حضورهم إلى الجامعة. كانت أثناء العرض، تصل من جوانب في أعلى مكان العرض، أصوات تُندّد بالعالِم، وعلى الطريق بين مكانين تستمرّ المسرحية. لنقُل إنّ المسرحية هكذا هي أيضاً الجمهور، والأمكنة التي تُعرض فيها، بل هي، على نحو ما، الأشجار والأدراج، وربما يمكننا أن نتخيّل أنّها الجامعة كلّها. من وراء العرض هناك المجتمع بكامله والنظام بأسره. الإخراج يجعل المسرحية كلّها عبارة عن كنايات. من الأصغر (القرية) نُطلّ على الأكبر (الشعب والمجتمع). المسرحية هي هكذا الخارج كلّه، المجتمع وربما الحياة بكاملها.
* المادة نشرت في العربي الجديد يوم 11 آب/ اغسطس 2024
Leave a Comment