*يوسف بزي
ما يقال همساً وجهاراً في المجتمع اللبناني، مخيف وأخطر حتى من وقوع الحرب نفسها. تحت سطح “التضامن مع غزة” الفضفاض، والذي يمكن لكل الجماعات اللبنانية تبنيه، يبدأ الشقاق على الفور مع الترجمات الكثيرة والشديدة التباين لكلمة “التضامن”.
والحال أن اختلاف الترجمة يعود إلى لغتين سياسيتين، نابعتين من فكرين سياسيين متناقضين أصلاً، لطالما قسّما اللبنانيين في جبهتين عريضتين لعقود مديدة. فكان الصدام والانقسام في خمسينيات القرن الماضي حول “العروبة” مع المدّ الناصري والوحدة السورية- المصرية. ثم تجدد الشقاق حول “المقاومة الفلسطينية” إلى حد انفجار الحرب الأهلية الأولى.
وما لبث اللبنانيون أن اتفقوا لفظياً حول “المقاومة” لتحرير الجنوب. وبغض النظر عن القتال الأيديولوجي والدموي بين أجنحة المقاومة المسلحة نفسها، فإن الشقاق كان في ترجمة كلمة “مقاومة” وغايتها وحدودها. والأهم ترجمة ما تنجزه في السياسة وفي علاقات الجماعات وموازين قواها وسطوتها على السلطة، أو ثقلها في إنتاج السلطة.
وبعد “التحرير” (عام 2000)، بدا لجماعات لبنانية أن ذاك الانتصار رفد جماعة بعينها برصيد استقواء ونفوذ، وغلبة شديدة الوطأة. خصوصاً أن السلاح صار عاملاً حاسماً في تقرير وجهة البلد ومصيره، ولا يقبل شراكة أو استشارة حتى.
وجاءت تجربة العام 2006، التي كان ثمنها انقلاباً هائلاً في النظام السياسي برمته، مكرساً غلبة قاسية بلا قفازات، متزامنة مع حملة اغتيالات شعر الجميع أنها أشبه بـ”الإبادة السياسية”.
أما وأن “السلاح” قد انخرط أيضاً في المقتلة السورية مساندة لنظام يكرهه ثلثا اللبنانيين على الأقل، فقد فاقم ذلك في مشاعر العداء بين الجماعات اللبنانية، على نحو طائفي ومذهبي، قبل أن يكون افتراقاً كبيراً في الموقف السياسي والأخلاقي من الثورة السورية.
هكذا، على نحو وطيد راحت الهوة تتسع وتتعمق، بقوة الضغينة والكراهية والافتراق (السياسي والثقافي والأيديولوجي.. والاجتماعي خصوصاً). وما بين انتفاضة 2019 وانفجار 4 آب 2020، تراكم الحقد اللبناني-اللبناني. وجاءت الكارثة الاقتصادية وانهيار النظام السياسي برمته، ليبدأ البعض بتقديم طروحات يائسة، تطورت من مطلب اللامركزية إلى الفيدرالية. وسبق ذلك، طرحٌ يحاول الخروج من الحالة الانشطارية، تبنته خصوصاً الكنيسة المارونية: الحياد الإيجابي. الذي يعني باختصار شديد، عدم تورط لبنان بصراعات المنطقة وإن التزم الانحياز بما يسمى “الموقف العربي”. وبظن الكنيسة أن هكذا “حياد” ينهي تلقائياً التشظي اللبناني.
منذ 7 تشرين الأول الماضي، وأبعد من التمايزات البديهية في النظر إلى حركة “حماس”، كان التعاطف مع غزة ومع الشعب الفلسطيني، هو “المشترك” الوطني. لكن، وفق أكثر من استطلاع رأي، أبدى الشطر الأكبر من اللبنانيين رفضهم أي تورط عسكري دعماً لغزة. والدولة اللبنانية نفسها أعلنت “رفض الحرب”، إنما على نحو مخاتل ومتلعثم لا يفك أو يناقض “وحدة الساحات”.
على مضض، يتحمل قسم كبير من اللبنانيين الأمر الواقع منذ يوم 8 تشرين الأول وحتى الآن، أي الانخراط في جبهة المساندة، التي تتصاعد راهناً نحو احتمال الحرب التدميرية الشاملة.
ويبدو أن شبح هكذا حرب، أفلت من العقول والقلوب كل ما يعتمل فيها من مكنونات الجماعات وهواجسها وكوابيسها وأساطيرها وعصبياتها. فالبعض يبدو أنه يستعيد مثلاً وقائع “الغزو العربي” قبل 1400 عام. وبعضهم تجاوز الفيدرالية إلى التقسيم التام. فيما جزء لا يُستهان به ذهب إلى الأقصى: الرهان على العدو للقضاء على الخصم المحلي.
اللبنانيون اليوم، إزاء خطر الحرب، وعلى المستوى المدني والأهلي، يُظهرون الكثير من علامات التضامن الإنساني والاستعداد للتكافل والمساندة والاحتضان. لكن، في الوقت نفسه، يُظهرون تشدداً متزايداً في الشعور الطائفي وفي الافتراق السياسي.
إذا استمر هذا الحال، فإن هزيمة لبنان- الجمهورية أسوأ بكثير من الحرب ومن أي هزيمة عسكرية.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الخميس 2024/08/08″
Leave a Comment