ثقافة صحف وآراء

في شوارع بيروت 1960…الترف والفقر قُطبان مُتقابلان

*عماد الدين رائف 

في عدد آذار/مارس 1960، نشرت مجلة “فسيسفيت” (العالم) الأوكرانية، ضمن قسم “حول العالم مع آلة تصوير” تقريراً مصوراً للصحافي ميخايلو كوزلوفسكي، حمل عنوان “في شوارع بيروت”. ينقل الكاتب الذي رافقته آلة التصوير في رحلاته الطويلة نبض الحياة اليومية في بيروت عبر صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، مرفقاً إياها بتعليقات ذات نكهة خاصة.

يقول عن بيروت:

لن نتحدث بالتفصيل عن الحياة اليومية في لبنان الحديث، ولبنان دولة عربية تقع على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ذلك موضوع لمقال طويل، لذا قررنا ببساطة التقاط صور من حياة بيروت عاصمة الجمهورية اللبنانية، وهي مدينة غريبة تعج بتناقضات مذهلة.

صخب، هرج ومرج، أجراس، أبواق… تجذبنا ساحة المدفع (البرج) المتنافرة إلى دوامتها وتحملنا بقوة جامحة، مثل تيار عظيم.

هنا عليك أن تبقي عينيك مفتوحتين، إذ لا يتبع أحد قواعد المرور في لبنان.

ـ لماذا لا تتبع قواعد السير؟ – سألنا أحد السائقين.

ـ جميع سياراتنا مؤمنة.

ـ لكن، ماذا عن الحياة؟

ـ والحياة أيضاً. – أجابنا ضاحكاً.

أول ما يلفت انتباهنا في ساحة البرج، العدد الهائل من بائعي الصحف. بالطبع، لا يقرأون الصحف التي يبيعونها، لكن الأخبار في ذلك اليوم كانت مثيرة للاهتمام للغاية لدرجة أنهم تحلقوا في مجموعات لمناقشة التقارير الإخبارية حول إطلاق صاروخ سوفياتي إلى القمر.

من يدري بماذا يحلم هذا الرجل اللبناني الذي يرتدي بدلة أوروبية، لكن بالنسبة لأي عرّاف (بصّار) في الشارع لا توجد أسرار، ومقابل نصف ليرة لبنانية فقط يمكنه أن “يحدد” مصير الزبون.

ومع ذلك، ربما لن يتمكن العرّاف الأكثر حكمة من معرفة ما يفعله هذا العدد الكبير من المبشرين الأجانب في لبنان، وأي قدر ساقهم إلى هنا، وما هو المصير الذي ينتظرهم في المستقبل القريب.

يناوب هذا الشرطي هنا دائماً. يسعى للحفاظ على بعض النظام على الأقل في حركة المرور الفوضوية في الشوارع، يجب أن تكون لديك أعصاب حديدية، وأن تقف طوال اليوم تحت أشعة الشمس الحارقة، فأنت بحاجة أيضًا إلى صحة فولاذية.

هذا المستكتب هو أيضا في الخدمة. لديه الكثير من العمل للقيام به، إذ يقصد المدينة آلاف الفلاحين الأميين لتقديم طلب أو شكوى، ولديهم الكثير ما يتظلمون منه. وهو ليس مستكتباً فحسب، بل صاحب محل تبغ وصراف أيضاً. يمكنه استبدال أي أموال بسعر الصرف وحتى أنه يبتاع الأوراق النقدية القديمة، ربما حتى تلك الصادرة عن “حكومة الدون العسكرية” (الحكومة المؤقتة التي تألفت في لواء الدون – جنوب روسيا إبان الحرب الأهلية الروسية، 1918-1920).

الترف والفقر قطبان متقابلان عند مدخل بيروت الخلفي. توجد على طول خليج السان جورج فنادق فاخرة للسياح الأجانب. إنه يحتوى على كل شيء من حمامات السباحة الداخلية إلى وحدات تكييف الهواء. وبالطبع، لا علاقة لتلك المنشآت بهذه الأكواخ الموجودة في الجانب الآخر من بيروت، والتي يعيش فيها عدد كبير من عائلات العمال.

إلى هذه المناطق، يجلب التجار منتجات رخيصة الثمن تستهدف المشترين الأكثر فقراً.

لدى التجار مجموعة واسعة من السلع، من الأطباق والأدوات المنزلية إلى البيض الطازج. بشكل عام، القدرة الشرائية للسكان منخفضة، ويجب إقناع المشترين ليبتاعوا البضائع.

من غير المرجح أن اللبناني العادي يعرف ما هي حضانة الأطفال، فإذا أرادت الأم الذهاب إلى وسط المدينة لشيء ما، عليها أن تأخذ معها جميع أطفالها. ومع ذلك، قد لا يطول الزمن لتصبح الحياة أكثر سهولة بالنسبة للأمهات اللبنانيات.

***

يُذكر أن مجلة “فسيسفيت” الأوكرانية هي أقدم مجلة أدبية في أوكرانيا، وقد قدمت مواد اجتماعية وسياسية وأدبية وفنية مصورة وتخصصت بالآداب العالمية. تأسست في يناير 1925 على يد فاسيلي إيلان بلاكيتني وميكولا خفيليف وألكسندر دوفجينكو. وقد كانت نصف شهرية من كانون الثاني/ يناير 1925 إلى تشرين الأول/ أكتوبر 1934، ونشرت في مدينة خاركيف (خاركوف)، ثم انطلقت من جديد في تموز/ يوليو 1958 من العاصمة كييف وما زالت تتابع الصدور حتى يومنا هذا (بمعدل عدد كل شهرين). خلال عمرها الطويل، نشر على صفحاتها أكثر من 500 رواية وآلاف الدواوين الشعرية والقصص والأعمال الدرامية وآلاف المقالات والتقارير والمقابلات مع مؤلفين من 105 دولة، ونشرت أعملا مترجمة من 84 لغة. لم تلعب مجلة “فسيسفيت” دوراً رائداً في تشكيل الثقافة الوطنية الأوكرانية فحسب، بل ساهمت في الثقافة في جميع الدول التي كانت منضوية في الاتحاد السوفياتي.

*نشرت في المدن يوم الخميس 2024/08/01

Leave a Comment