صدر عن دار “نلسن” ومؤسسة أوراق للتراث والأبحاث، كتاب “مدخل إلى مأزق الثقافة العربية” للباحث وليد نويهض، يتضمن مقالات نشرت بين نهاية 2002 ومطلع 2011 في صحيفة “الوسط” البحرينية، وصحيفة “السفير” اللبنانية بين 2012 و2013، تتحدث عن وجوه للأزمة البنيوية الثقافية التي تحكمت بالفكر الاسلامي وما نجم عنها من انزلاقات عطلت امكانات النهضة العربية وفتحت مقابلها قنوات عبور للحروب الاهلية الدائمة.
يتشكل الكتاب من أربعة محاور أو أوجه، الوجه الأول: الثقافة والحق في الاختلاف. الوجه الثاني: الدهشق ومأزق الثقافة. الوجه الثالث: هيغل ومأزق الجسر. الوجه الرابع: التداعي والسقوط.
هنا مقدمة الكتاب:
يفترض الحديث عن “ثقافة عربية” وجود إجماع على تعريف الثقافة وتحديد ماهيتها. ويرجح أنَّ الإجماع المطلوب غير متوافر على وعي صيغتها. فهل الثقافة مجموعة تصورات إذا تمَّ التفاهم عليها يتشكل ما يشبه الإجماع على هويّة ثقافية، أم هي بنية ذهنية جاهزة يتم قبولها أو رفضها بحسب أهواء الأشخاص ورغبات الأفراد، أم هي فعل زمني دائم يتم إنتاجها وإعادة إنتاجها وفق ظروف البيئات وحاجات المرحلة؟ أسئلة الثقافة هي أسئلة عنها على المستويين النظري والتاريخي.
نظريًّا هي إدراك الشيء واستيعابه والظفر به، أي فهم الواقع وتهذيبه في معنى تسوية الوعي مع الواقع. وتاريخيًّا هي معطى يتغيّر ويتبدّل من بيئة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر من دون أن يتحول التطور إلى مشروع مستقل عن متطلبات الواقع. فالثقافة الحيَّة هي وعي الصيرورة التاريخيّة ومحاولة اكتشاف الزمني في ظرف محدّد من دون تفريط بالأصل أو بالخاص.
حتى تبقى الثقافة حيّة لا بد من استيعابها للجديد وإدراجه في الموروث. لذلك تمَّ تمييزها عن الناموس لأن الأخير هو الشرع المطلق الذي لا يتناهى مع المتناهي. كذلك تمَّ تمييزها عن التقليد وهو اتّباع الآخر في ما يقول أو يفعل من دون تفكير أو تأمّل. وأيضًا تمَّ تمييزها عن العادة وهي ما يستمر عليه الناس بالعودة إليه مرّة أخرى. وتختلف الثقافة في المعنى المذكور عن العرف وهو ما تستقر عليه الأمور من خلال ما تتلقاه العقول بالقبول. فالثقافة في حدود معيّنة أقرب إلى المعرفة التي تقوم على إدراك الشيء كما هو، وبما أن الإدراك نسبي، تصبح المعرفة نسبية والثقافة كذلك.
الثقافة العربية وغير العربية هي نسبية وليست ثابتة وهي تاريخيّة وليست جاهزة، لأنها أصلًا مؤسسة على تهذيب الوعي ليتناسب مع الواقع تسهيلًا لإدراكه. وبما أن الواقع يتغيَّر تتغيّر الثقافة نسبيًّا، وهي أيضًا تختلف بين واقع وآخر تبعًا
لاختلاف البيئات وعدم تطابق ظروفها وأنماطها وحاجاتها وتطورها التاريخي.
بسبب ذاك الاختلاف اختلفت ثقافات العالم على رغم أن الشعوب كلها تعيش في زمن واحد. اختلاف تاريخيَّة الزمن بين شعب وآخر يفرض حاجات مختلفة تفرض بدورها شروطها النسبية على الوعي والمعرفة والإدراك. حتى القضايا العالمية المشتركة ليست مشتركة عالميًّا، فهي مختلفة نسبيًّا على رغم اتفاقها في العناوين العامة. فهناك الكثير من القضايا متشابهة لكنها ليست بالضرورة متطابقة. لنأخذ المسائل المتعلّقة بالبيئة والتلوّث والعادات والأزياء (الموضة) فهي تهمّ البشرية جمعاء لكنها تختلف في نسبة وعيها بين شعب وآخر تبعًا لاختلاف الحاجات والضرورات. ولنأخذ المسائل المتعلّقة بالمرأة وحقوقها فهي ترفيهية في دول أوروبا الشمالية بوصفها متحققة، بينما هي ضرورية وترد على حاجات مباشرة في بعض دول العالم الثالث. فالخلط بين الحاجات الضرورية وبين برامج التسلية والترفيه النسوية يوقع في تعميم يقتل روح المبادرة ويؤدي إلى الإحباط ويعطّل التطور الزمني. والزمني في جوهره يقوم على النسبي، والنسبي يعني إدراك الواقع كما هو قبل محاولة تطويره إلى ما يجب أن يكون. المطلوب هو الاجتهاد في القضايا المطروحة والنظر فيها من الجانبين لمعرفة نسبة الاختلاف بينهما للوصول إلى الصواب والموقف الصحيح من التحديات العامة والمواجهات اليومية.
بناء على المذكور يتحدث الواقع العربي عن ثقافات عربية وليس ثقافة واحدة موحدة. ويمكن رصد ثلاثة أنماط منها: الأول موروث وموزّع على تعدد الهيئات الأهلية، والثاني متجدّد يجتهد في إعادة تحديث الموروثات الشعبية، والثالث منقول وهو تلك الثقافة المترجمة عن لغات أجنبية لم تنجح في الوصول إلى انتاج وعي مستقل عن المصدر.
الثقافة الأولى هي الأقرب إلى الاجتماع التاريخي وأقرب إلى التجانس بسبب تقارب الجماعات الأهلية إلى بعضها من دون أن يعني الأمر توحدها أو تطابقها. والثانية تمثل الوعي المركب من ازدواج معرفي بين الموروث والحديث. بينما الثالثة لا تتميّز بصفة لأنها تعكس مستوى تطور وعي ثقافة البلد الذي أنتجت به، وترجمتها لا يعني تحوّلها إلى جزء بنيوي من ثقافة الآخر.
يفسّر الانقسام المذكور عدم تجانس النخب العربية وتبعثرها إلى هيئات غير متّفقة على وعي موحد. كذلك انعزال النخبة عن أهلها وابتعاد الأهل عن وعي النخبة. ثقافة النخبة هي خاصة في عالمها، وعالمها منقول عن وعي آخر وأحيانًا مضاد لوعي الجماعات الأهلية. ويمكن ملاحظة الأمر من خلال التوتر الدائم بين الثقافة الموروثة التي تتميّز بسمات مشتركة من المحيط إلى الخليج وبين ثقافة هجينة لا هي بالحديثة ولا هي بالقديمة تبحث عن هوية مستقلة عن بلد المنشأ.
تبدأ أزمة المثقف العربي الحديث من لا تاريخية ثقافته فهو حائر بين هويته الموروثة وقناع اختاره لا يتناسب مع بيئته. وتفاقمت أزمته حين أخذ القناع يقطع صلته بالواقع. وزاد من غربة المثقف عن أهله انقسام مشروع التحديث العربي. المشروع ليس موحدًا، وهناك “تحديثات” عربية موزعة على الجماعات الأهلية وتختلف على كل شيء باستثناء الهواجس الأمنية. وأساس تفكك مشروع التحديث العربي هو انقسام الدولة العربية على عشرات، وكل دولة اختارت طريقها “الحداثي” باستقلال عن الأخرى. وكل دولة تريد تأسيس “حداثتها” على صورتها ومثالها وإرغام الناس على تقبّل مشروعها عنوة كما تريده النخبة لا كما يريده المجتمع. عدم وحدة الدولة العربية أفشل وحدة مشروع التحديث وشرذمه إلى عشرات من المحاولات التجريبية التي عجزت عن نقل المجتمع من تاريخ إلى تاريخ ولم تلقَ النجاح في خطط تطوير بنية “الدولة” وتحويلها من مشروع متخيّل إلى دولة في المعنى التاريخي.
بسبب تلك الأزمة البنيوية لتاريخ الدولة العربية المعاصرة أدّت التجارب إلى إنتاج التخلف، وتبعثر مشروع التحديث الحقيقي في معناه التطوري التاريخي. فانتهت العلاقات العربية – العربية إلى المزيد من الابتعاد عن بعضها والافتراق عن مشروع الوحدة في وقت افترضت “النخب” أنها تحقق التقارب. الدول في العالم العربي هي أعلى من عشيرة وأدنى من مؤسسة وهي أقرب إلى مفهوم زمرة توحّدت مصالحها على الاستيلاء. ولعبت الزمر دورًا سلبيًا في تعطيل وحدة الوعي. وبسبب ذاك التفاوت في وعي التحديث انفرط العقد إلى كرات صغيرة غير متجانسة فانشطر المثقف بدوره بين خط الدفاع عن مشروعه وإغراءات القبول بمشروع السلطة.
المشكلة إذًا بنيوية وعضوية وتاريخية وأعقد من أن تكون ثقافية. فالثقافة وأزماتها هي تعبيرات عن تلك المعضلة التي تأسست من تبعثر وعي النخبة وانقسام مشروعها التحديثي، وهو أمر عطّل وظائف المثقف ودوره التاريخي فانتهى إلى فشل في تحقيق وحدة الوعي بين النخب العربية نفسها. كيف يمكن قراءة الأزمة البنيوية/ العضوية تاريخيًّا؟
العودة النظرية إلى التاريخ لا تعني النكوص إلى الماضي، وإنما محاولة الإفادة من عثراته وثغراته لإعادة اكتشاف سلبيات الراهن وتأسيس رؤية قادرة على الامساك بشبكة خيوط التقدم. العودة نظرية لأن التاريخ لا يتقهقر لكون الزمن حلقات تطوّرية تتواصل من دون انقطاع بين محطاتها.
بناء على قراءة المسار التاريخي يمكن رصد حالات الفشل التي تعرّض لها الفكر الاسلامي في أطواره الزمنية بدءًا من تأزم الاتصال بين الشريعة والحكمة وغياب الوعي النقدي للثقافة المتوارثة وصولًا إلى الجمود الذي تعرّض له الاجتهاد الفقهي، وانتهاء بفشل ما يسمى “النهضة العربية” وانغلاق مشروعات الوحدة وتحطّمها على ترسّبات العصبيّات القبلية والجهوية والأقوامية والطائفية والمذهبية وما تمثّله من هويّات ضيّقة ترتد على الذات في لحظات الغضب والاحتجاج.
* * * * *
يبدأ الوجه الأول عن “الثقافة والحق في الاختلاف” بسؤال عن تداعيات الهجوم على الإسلام، وهل سينتهي بإطلاق يقظة تردّ على التحدي أو القبول بشروط الاستسلام. بعد السؤال عن الاحتمال يتحدث عن أسباب الانكسار وانهيار التوازن الحضاري بعد القرن الخامس عشر ونجاح أوروبا في تطويق العالم الإسلامي وتراجع دوره في المعادلة الدولية.
ساهم الانكسار في توليد خلل في بنية الفكر العربي المعاصر تمثل في عدم القدرة على تفسير الأسباب التي أدت إلى تطور أوروبا، والاكتفاء بدور المتفرج على آليات النهوض. ولعبت سياسة الانبهار وظيفتها في توليد إيديولوجية تدعو إلى الالتحاق من دون إدراك للآليات الذاتية التي تتأسس عليها طموحات التقدم. فالتقدم ليس مجرد رغبة وإنما معرفة تقرأ الحاضر ولا تقطع مع الماضي، فهو عملية اجتهادية – تاريخية تأخذ من التراث ما هو ممكن وتعيد إنتاج أولويات تؤسّس على أرض الواقع أبنية قادرة على التكيف مع متطلبات العصر وشروطه. فالاجتهاد المعاصر هو قراءة حديثة لمستجدات الدنيا والزمن الحاضر، ويتطلب تطوير أدواته حتى يستطيع استيعاب المتغيرات واستخراج الأدلة القادرة على الرد على حاجات المرحلة وتحدياتها.
أكد ابن خلدون في مقدّمته على أنّ الوقائع الجارية (المصالح المرسلة) لا توفي بها النصوص، لذلك طالب بالنظر في الأدلة الشرعية حتى تؤخذ منها الأحكام والتكاليف.
يفترض اختلاف الزمن حصول اختلافات في الاجتهاد ويتطلب تطوير أدوات ومناهج التفكير، حتى تنجح النخبة في تجاوز غربتها عن الأهل (الجماعة) ولا تقع في فخ تكرار مقولات لا تتجاوب مع حاجات الواقع المعاصر. فالتدويل الذي دخل على مسار التطور العالمي خلال القرون الستّة الأخيرة يحتاج إلى منهجية إسلامية جديدة تقرأ الأسباب الكامنة وراء التقدم وكيف يمكن التعرف عليها انطلاقًا من تحديات الحاضر. فالحاضر مفتاح الماضي وليس الماضي مفتاح الحاضر.
يبدأ الوجه الثاني عن “الدهشة”… ومأزق ثقافة” بسؤال عن كوامن “الدهشة” في الفكر العربي وعدم القدرة في التوافق على إجابة تحدّد أسباب التقدّم والتراجع. فالأسئلة المذعورة (لماذا، وماذا، وكيف، وأين) استدعت أجوبة قلقة ومتوترة، ما دفع إلى نمو خطاب متسرّع واستنتاجات واهية. فالأجوبة غيّبت الزمن عن معادلة التطور ونظرت إلى الحاضر بعيون الماضي.
ساهم عدم إدراك الفجوة الزمنية في إنتاج قصور ذهني في قراءة أهمية الدولة في قيادة التحول وتجاوز نظام المحاصصة (الملل والنحل) وإعادة دمج الفسيفساء الأهلية في وحدة ترتب العلاقات على قاعدة المصالح المرسلة.
ساهم هذا الضعف البنيوي في تكوين ثقافة ارتحالية تتنقل من واحة فكرية إلى أخرى من دون أن تنجح النخبة في تشكيل منطقة استقرار تساعد على التموضع الجغرافي والتراكم الزمني وإنتاج آليات تفكير تقارب الواقع وقوانينه وما يقتضيه من مصالحات تضبط التوازن بين الموروث والمطلوب.
لعب هذا الانسداد التاريخي دوره في تأزيم “الحداثات” العربية ودفعها نحو الاصطدام مع تعقيدات الواقع وانقطاعها عن الجماعات الأهلية، والدخول في مواجهات إيديولوجية تعكس تصوراتها الكثير من سياسة الكسل والاتكال على الآخر (الأجنبي) ليقوم بالنيابة عن النخبة بالمهمة التاريخية.
أدى النقل من دون إبداع إلى بلادة ذهنية وإعادة إنتاج أزمة الفكر العربي، وأبطل أيضًا إمكانات تطور “الحداثات” فأصبحت النخبة أسيرة مقولات مترجمة وجاهزة وجامدة وغير قادرة على مدّ الجسور مع الداخل. فالنخبة لا تزال تنقصها نظرية معرفة ترد على أسئلة لماذا وكيف وماذا وأين وما هي القوانين التي تتحكم بآليات التطور.
قراءة أسباب التقدم تساعد كثيرًا على الخروج من فكر الدهشة والأسئلة المذعورة. ومعرفة الأسباب “القريبة” والأسباب “البعيدة”، كما يقول ابن خلدون في مقدمته، تساهم في تشكيل تصور تاريخي عن تدرج محطات التقدم وآليات التطور.
يبدأ الوجه الثالث عن “هيغل… ومأزق الجسر” بسؤال عن مدى صحة نظرية هيغل عن العقل الفلسفي العربي، وهل هو فعلًا مجرد تنويع لفظي على الفكر اليوناني؟ حتى الآن ما زال الجواب بحاجة إلى بحث للتوصل إلى نقطة تحدد مجال الإبداع العربي – الإسلامي في الحقل الفلسفي. المسألة معقّدة لأن الصانع غير القارئ والناقل غير الناظر، وهناك كثير من الأجوبة وهي في مجموعها ليست دقيقة في قراءة تاريخ تطور الأفكار.
لا يمكن فصل الفكر وتطوره عن الحاجة والوظيفة والدور الذي تلعبه المنظومة الفلسفية، لذلك لا بد من إعادة قراءة التاريخ العربي – الإسلامي حتى نصل إلى تحديد المجال الحيوي الذي نشط فيه الفقهاء.
الفقه هو فلسفة تتحرّك في الميدان العملي للإجابة عن أسئلة ذهنية، لذلك لا يمكن عزله زمنيًّا عن منطق الفلسفة ووظيفتها في إثارة إدراكات العقل وتحريك آليات المخيّلة والتفكر. والمقالات التي أنتجها الفقهاء اتّسمت بمنهجية فلسفية عملية ترد على حاجات الناس وتربط جدليًّا بين النص ومتطلبات اللحظة الزمنية.
بسبب هذه الوظيفة العملية شكّل أحيانًا العجز في التوفيق بين الموروث والمتغيرات الظرفية أحد أوجه معاناة الفكر العربي – الإسلامي في مسألة البحث عن الحقيقة ومصادرها الأولى ونهاياتها المفتوحة على احتمالات.
وأدّت الأزمة إلى توليد مشكلة في منهج التوفيق أو الجمع بين الأضداد. فالأزمة أصبحت كامنة أصلًا في تناقض مصادر الفلسفة وميلها الدائم نحو التجميع والانتقائية ما أعطى فرصة للفقه في احتواء المشكلة حين نجح في نقل التصورات الذهنية إلى الواقع العيني.
حتى الآن لا تزال هناك أجوبة متعارضة بشأن نظرية هيغل عن “الجسر” الناقل لا العقل المبدع. وبسبب تعدّد القراءات واختلافها على تحديد المجال الحيوي الذي نشط فيه العقل العربي في مختلف محطات التاريخ الإسلامي، انتهى الأمر إلى التصدع وانهيار “الجسر” وتحطّمه في الزمن الحاضر. فالتقهقر الزمني يعكس في طياته ذاك التراجع الفكري ليس في بداياته الأولى وإنما في نهاياته. الأزمة عادة تبدأ من الآن (الحاضر) وليس من زمن مضى.
يبدأ الوجه الرابع عن “التداعي والسقوط” من الحاضر المتفجر والمتبعثر إلى أشلاء على امتداد خريطة “الشرق الأوسط”. ومبدأ التداعي هو قانون ابتكره فرويد في منهج التحليل النفسي، وهو أشبه بصور الحلم الذي يستحضر أحيانًا حوادث من الذاكرة ويعيد ترسيم خطوطها في حاضر معاش.
المتغيّر دائمًا هو الثابت في اعتبار أنّ عالم الإنسان لا يمكن أن يستقر على نمط واحد من التفكير الإيديولوجي أو اللغة السياسية أو أسلوب التخاطب اليومي أو السلوك المعيشي. وما يحصل الآن في الوطن العربي هو نتاج التطور المعطوف على أزمة التحديث، ويمكن أن نجد تفسيره في الاحباطات والانكسارات والانهيارات والمظهر الخارجي للجماعات. فالداخل الآتي من الخارج يتمظهر في قوة “غريبة” تريد زعزعة الاستقرار وتدمير الخصوصية وتشويه الهوية، ويصبح الدخيل مجرد رمز يتحرك طبيعيًّا في إطار الصورة.
التاريخ أحيانًا أشبه بالدولاب الذي لا يمكن وقف دورانه حول نفسه والآخر، ما يؤدي بفعل التراكم الزمني والاحتكاك والتفاعل والتأثير المتبادل إلى حصول تحولات اجتماعية داخلية من دون وعي أو تخطيط. إنّه أشبه بالحلم الذي يستدعي تصورات معدومة القيمة من الماضي السحيق.
نحن نعيش الآن مرحلة الفوضى الانتقالية التي تختلف فيها قواعد نمطية في التعامل مع الموروث والنظر إلى الآخر في سياق إسقاطات انقلابية تجمع ما بين الاحتيال الإيديولوجي والخوف من الآخر والانبهار (الدهشة) به. فأفكار الحلم كما يقول فرويد ليست دائمًا أباطيل. والخريطة التي نشاهد دمارها وتداعياتها هي نتاج مأزق الحاضر وصور الماضي المحطم في الذاكرة الجمعية. هناك فوضى انتقالية تختلط فيها الهوية الواقعية بخيالات تمتزج في صورها أشلاء الحلم برغبات مقموعة وطموحات مدفونة في قعر الذاكرة.
خلال مرحلة الفوضى الانتقالية تصبح كل الأمور عرضة للتقلبات حين تهبط المبادئ العامة وتسقط على الناس في الساحات والميادين وتتحوّل الرغبة في الحلم إلى واقع يتحرك بين حقيقة وأباطيل. فالحلم بـ”الربيع العربي” هو بداية التحوّل الذي يدفع العقل إلى إعادة القراءة بهدف التوصل إلى إجابات يُفترض أنها تلبّي حاجات الأحلام وطموحاتها.
المرحلة الانتقالية لها شروطها، وهي بطبيعة الحال تتشكل من مجموعة تعارضات ليست قديمة بالتأكيد وهي ليست جديدة بالضرورة… إنها حلم يتحول بعد النهوض من سبات النوم إلى يقظة.
Leave a Comment