مع مرور تسعة أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزّة، وعلى حرب الاستنزاف التي يخوضها حزب الله ضدّ الجيش الإسرائيلي في الحدود، والتصعيد الكبير في تبادل الضربات بين الطرفَين، وتوسيع الحزب هجماته ردّاً على الاغتيالات التي تقوم بها إسرائيل لكبار قادته، فشملت في آخر أسابيع مناطق في وسط هضبة الجولان، ومناطق أخرى في عمق الجليل… يبدو أنّنا، أكثر فأكثر، أمام سيناريو مُصغَّر من حرب لبنان الثالثة، التي لطالما هدّد بها المسؤولون الإسرائيليون لبنان.
ما يجري اليوم صورةٌ مُصغَّرةٌ عن هذه الحرب جغرافياً، أي انحصارها في المناطق القريبة من الحدود، سواء في جنوب لبنان أو في شمال الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وأخيراً امتدادها إلى هضبة الجولان المُحتلّة. كذلك، بالنسبة إلى أنواع الأسلحة المُستخدَمة فيها من صواريخ دقيقة ومُسيَّرات من أنواع مختلفة، أو في طبيعة العمليات التي تتركّز في أهداف عسكرية لدى الطرفَين. لكنها في الحرب الشاملة لن تقتصر على الأهداف العسكرية، ولن تكون محصورة جغرافياً، وستُستخدَم فيها أنواعٌ أشدّ فتكاً وتدميراً، وتشلّ الحياة الطبيعية في الجانبَين. في الحرب المُصغَّرة الحالية أثبت حزب الله قدراته في مهاجمة أهداف وقواعد للجيش الإسرائيلي، وفي إنزال خسائرَ فيها. في المقابل، أثبتت إسرائيل قدرتها في اختراق حزب الله استخباراتياً، وفي الوصول إلى قادة عسكريين رفيعي المستوى.
حتّى الآن، أدّت هذه الحرب المُصغَّرة إلى وقائع ملموسة في الأرض، أكثرها أهمّية إيجاد منطقة أمنية خالية من السكّان في الجانبَين. فقد تمكّن حزب الله من تحويل المستوطنات الإسرائيلية المحاذية للحدود مع لبنان منطقةَ عمليات عسكرية، بعد قرار إسرائيل في مطلع المواجهات إخلاء سكّان هذه المستوطنات من منازلهم، بينما حوّلت إسرائيل الحياة في القرى والبلدات الجنوبية اللبنانية إلى جحيم يومي، وأجبرت السكّان هناك على النزوح منها. هذا، من دون الحديث عن الدمار والخراب لدى الطرفَين جراء تسعة أشهر من القصف المُتبادَل.
العامل الأكثر أهمّية أنّ ما يحدث في الجبهة بين حزب الله والجيش الإسرائيلي بات من الصعب التصديق أنّه يمكن أن يتوقّف وينتهي مع التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة. حزب الله أكّد على لسان أمينه العام (وكبار مسؤوليه) أنّ عملياته ستتوقّف، وستهدأ الجبهة، وتصمت المدافع ما أن يُعلَن وقفُ إطلاق النار، الذي يبدو حتّى الآن صعباً ومُعقّداً، ويواجه كثيراً من العقبات. وفي الواقع، أصبحت للمواجهات الدائرة أخيراً ديناميتها الخاصّة ومنطقها القتالي، وأهداف مُحدّدة، ولم تَعُد مُجرّد عمليات إسناد يقوم بها الحزب نصرةً لحركة حماس، هدفها إشغال الجيش الإسرائيلي، وتشتيت انتباهه واستنزافه، بل أضحت أقرب إلى حرب لها أهداف تكتيكية، واستراتيجية مُحدّدة، وضعهما حزب الله، ويستخدم الحزب خلالها شتّى الوسائل كي يُبرهِن للإسرائيليين أنّه في قمّة الجهوزية لمواجهة حرب شاملة إذا بادرت إسرائيل إليها. وتدخل في هذا السياق الحرب على الوعي التي يخوضها الحزب والمُوجّهة إلى الجمهور الإسرائيلي، من خلال الفيديوهات التي نشرها الحزب عن المواقع والأهداف العسكرية والمدنية التي هي في مرمى صواريخه، في محاولة لترهيب الجمهور الإسرائيلي من مغبّة مبادرة إسرائيل إلى حرب شاملة ضدّه في لبنان.
من يتابع تطوّرات المواجهات مع حزب الله، من وجهة النظر الإسرائيلية، يلحظ: أولاً، قناعةً إسرائيليةً بأنّ وقف إطلاق النار في غزّة يمكن أن يُؤدّي إلى وقف المواجهات مع حزب الله، لكنّه لن يَحلّ التعقيدات الناتجة من تطوّر المواجهات وتوسّعها، ومن تصاعد حدّة خطورتها وتداعياتها على الردع الإسرائيلي. ثانياً، هناك ربط تقيمه إسرائيل بين عودة قرابة 60 ألفاً من سكّان المستوطنات الشمالية إلى بيوتهم، وإحداث تغيير جذري للواقع الناشئ في الحدود مع لبنان، ولا يبدو هذا سيتحقّق قريباً، وهو ما سيزيد الضغوط الداخلية التي تطالب الجيش بحلّ جذري، ولو من خلال العمل العسكري. الأمر الثالث هو أنّ هناك قناعة إسرائيلية بأنّ أيّ عملية عسكرية واسعة النطاق من أجل تغيير الواقع الأمني عند الحدود قد تُؤدّي إلى مواجهة إقليمية مُتعدّدة الجبهات تشارك فيها المليشيات الموالية لإيران في العراق، والحوثيون في اليمن، وربّما إلى تدخّل مباشر أيضاً من إيران، في شكل الهجوم الإيراني بالصواريخ الباليستية والمُسيّرات الذي شنّته على إسرائيل في إبريل/ نيسان الماضي (2024)، وهي تُعدُّ الجيش لكلّ هذه الاحتمالات.
في وسط هذا المشهد المُعقّد الذي آلت إليه التطوّرات العسكرية، تبدو المساعي الدبلوماسية الأميركية والفرنسية، التي يتولّاها الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، منفصلةً إلى حدّ ما عن الواقع في الميدان، لا سيّما إذا ما كان المطروحُ صيغةَ تسويةٍ على طريقة لا غالب ولا مغلوب، تتيح لحزب الله أن يخرج مُنتصراً، وكذلك إسرائيل، من دون أن تُشكّل ردّاً فعلياً على ما آلت إليه الأمور جرّاء حرب الاستنزاف على الحدود مع لبنان.
سبق لإسرائيل أن خاضت حرباً مُتعدّدة الجبهات مع جيوش نظامية عربية، لكنّها لم يسبق لها أن خاضت حرب عصابات مُتعدّدة الجبهات. لبنانياً، تتزايد المخاطر مع تعقّد التطورات وتشابكها، وغياب حلّ دبلوماسي فعلي وحقيقي، وقابل للتطبيق، لا سيّما في ظلّ تبدّل القناعات الإسرائيلية إزاء الحلّ المطلوب من وجهة نظرها للتطورات العسكرية في الحدود.
* نشرت على موقع العربي الجديد بتاريخ 12 تموز/يوليو 2024
Leave a Comment