مجتمع

تفككت الهوية العربية.. وبقيت فلسطين وحدها عربية

محمد قدوح

بيروت 6 تموز 2024 ـ بيروت الحرية

تعيش الدول العربية أنظمة وشعوباً في عالم من العنف المفروض من قوى التسلط الخارجية المتمثلة بأميركا وحلفائها، ومن قوى التسلط الداخلية المتمثلة في الانظمة الحاكمة، ما يجعلها تعيش حالة فقدان السيطرة على مصيرها، وهو ما يدفعها لتوهم الخلاص بتقرب الانظمة الحاكمة من قوى التسلط الخارجية، بموازاة تقرب الشعوب من قوى التسلط الداخلية، ما يعني ان هذه الدول انظمة وشعوباً تعيش في وضعية الرضوخ للمتسلط، حيث تنمو وتنتشر خلالها ظاهرة التماهي مع المتسلط، وهي من اكثر الظواهر الاجتماعية شيوعاً في الدول النامية، وتكاد لا تترك فئة سكانية او وجها من وجوه الحياة الاّ وتتغلغل فيه، حيث تتوافر سلسلة متواصلة من حلقات التماهي، تبدأ من اعلى الهرم، حيث تتماهى الانظمة الحاكمة مع سيدها وحليفها الأميركي، وتنتهي بتماهي اكثر الناس ضعفاً بمن يفوقهم في المرتبة مباشرة. الا ان النموذج السائد هو التماهي مع أعلى المتسلطين مقاماً ونفوذاً محلياً وخارجياً. وهؤلاء هم الذين يحددون القيم والتوجهات الاساسية لكل من يأتي بعدهم في التراتبية.

مفاعيل التماهي بالمتسلط

اولاً: على مستوى الانظمة الحاكمة: تمر ظاهرة التماهي بثلاث مراحل:

المرحلة الاولى: التماهي بأحكام المتسلط وبمواقفه حيث تتماثل مواقف الانظمة الحاكمة مع مواقف المتسلط الاميركي، خشية منه ولدرء خطره، وهي تعيش في هذه المرحلة أعلى درجات السادومازوشية، فهي تتقبل الرضوخ له والافراط في رهبته والاعجاب به في آن. وتجهد في دفن الماضي والاندفاع في حركة هروب من الذات والارتماء في حضن الاميركي والذوبان في عالمه، وهم يبذلون كل جهد ممكن في هذا السبيل متنكرين لمصالحهم الحقيقية.

المرحلة الثانية:  هي التماهي مع عدوان المتسلط الأميركي، حيث تعمل الأنظمة على محاصرة بؤر الإعتراض الداخلي وقمعها بل وتصفيتها وتوظيف خدمات الدولة لتدجين الشعوب، واعتبارها رعايا لها، وفي موازاة ذلك تتعامل بقسوة مع الأنظمة المماثلة لها، التي قد تعترض كليا أو جزئيا على مواقف المتسلط الأميركي. وتنفذ كل ما يلزم لإخضاعه بما في ذلك تقديم المساعدة للأميركي من أجل هذه الغاية، وذلك لكي لا يذكّرها هذا النظام بعجزها وضعفها. ويذكر في هذا السياق المساعدة التي قدمتها غالبية الأنظمة العربية لضرب العراق وإحتلاله بعد ذلك، وكذلك دورها في عسكرة الانتفاضات العربية، وتفكيك المجتمعات العربية .

المرحلة الثالثة: هي التماهي مع قيم المتسلط. والترويج لها، في هذه المرحلة تتقدم غالبية أنظمة دول الخليج العربي على باقي الأنظمة العربية ومن نتائجها المباشرة التطبيع مع العدو الاسرائيلي والترويج لفكرة السلام معه ولسرديته التي تتعلق بعلاقة اليهود بقلسطين، وبالتالي تبرير إحتلالها وقتل وتشريد شعبها.

مع بداية الحرب الأمريكية الاسرائيلية على قطاع غزة، نشط الأميركي من أجل تعزيز ظاهرة التماهي، ترغيباً وترهيباً، عبر حشد الاساطيل العسكرية في البحر المتوسط والبحر الاحمر( إرهاب المعترضين وترغيب الموالين) وترافق ذلك مع حملة شاملة لتحطيم القيم الاجتماعية والحضارية والدينية للمجتمعات العربية، ووصفها بأنها بنى إجتماعية منتجة للإرهاب وغير قابلة للتطور .

وهكذا فقدت الأنظمة العربية، هويتها وأصالتها ووجدت نفسها عارية غريبة عن نفسها، تحاول بشتى الوسائل ومن خلال مختلف الأقنعة أن تجد هوية بديلة عن هويتها الأصلية، وأن تحصل على ما يعطيها وهم القوة، وقد وجدت في الصمت حيال ما يحصل في غزة أفضل وسيلة لتغطية عجزها.

ثانياً:  التماهي على مستوى الشعوب العربية

تعيش الشعوب العربية جميعها في وضعية القهر نتيجة الاستبداد الذي تمارسه الأنظمة العربية، وإن باشكال ووسائل مختلفة. وقد نجحت الأنظمة جمعيها في تدجين التشكيلات الإجتماعية الحديثة مثل النقابات والأحزاب الديمقراطية التغييرية، ما أدى عمليا إلى إفناء الحياة السياسية في هذه المجتمعات، وجعلها في حالة سكون ظاهر، ما يعكس عجزها عن توليد ردود فعلها حيال ما تتعرض له هذه المجمعات من تهميش وإفقار وتغييب للقيم الوطنية والقومية… ما دفعها إلى حال يأس من التغيير، والرضوخ للانظمة الحاكمة رغم الأزمات المتناسلة والمتصاعدة على كل المستويات المعيشية، الاقتصادية والوطنية والقومية.

وتنتشر في هذه الوضعية ظاهرة التماهي بالمتسلط كما سبق واشرنا، وقد بلغت المجتمعات العربية المراحل الثلاث لهذه الظاهرة المتمثلة بالتماهي مع احكام المتسلط وعداوته وقيمه. ففي ظل التماهي مع المتسلط وسلوك الاستبداد وما يترتب عليه بالنسبة لمصير الشعوب، تنتشر وتتعزز قيم سلبية مثل تراجع الحس الوطني، مقابل تعزيز الانتماء القبلي والمناطقي والطائفي والمذهبي، وسيادة قيم الاستزلام، والفساد بمختلف أنواعه ومستوياته والنفاق… الجميع يحاول لدرء خطر رموز السلطة، والحصول على بعض الفتات لسد الجوع، والحصول على بعض وهم القوة، ومواجهة المعترضين على السلطة الذين يذكرونهم بعجزهم وضعفهم من جهة، وخوفاً من فشل هؤلاء المعترضين من ناحية ثانية، الذي يزيد انكشاف عجزهم من جهة ثانية، (الهجمات على انتفاضة 17 تشرين نموذجاً).

لكن هذه السلوكيات التي قد تعطي إنسان هذه المجتمعات وهم القوة للسيطرة على مصيره، لا تكفي لتجميل وضعية القهر والعجز بواقعيتها، ولا بد له من الوصول إلى حل ما لكي يستوعب مأساته، بحيث يعطيه أو يشعره بشيء من السيطرة على واقعه. وفي حال لم يتيسر له هذا الحل، يحاول توسل الأوهام ليحمّل بها الواقع ويستعين بتصوراتها لتحمل أعباء الواقع، وبذلك يصل إلى شيء من التوازن الوجودي الضروري لإستمراره، وذلك، انطلاقاً من أنه كلما ضاقت أمام الإنسان فرص الخلاص، اندفع إلى التماس النتائج من غير أساسياتها، أي استبدل  السببية المادية بالسببية الغيبية، وبذلك يصل إلى وهم هذه المجتمعات بمرحلة السيطرة الخرافية على المصير، والخطير في هذا الأمر هو طمس إرادة القتال من أجل التغيير.

وتأخذ السيرة الخرافية على المصير طابعاً نقائيا في محتواها، وهي تتلخص على الدوام بازدواج الأضداد: الخير/ الشر، الحظ/ النحس، التفاؤل / التشاؤم. وهكذا يتعلق الإنسان برموز الخير: الدين، الأولياء الصالحين، ويعقد حلفاً معهم لمساعدته في التصدي للواقع والتحكم بمصيره، ويبتعد عن رموز الشر: الجن والشياطين وهذا يعني اسقاط المعاناة الذاتية على الشيطان للتنصل من المسؤولية عن المصير.

وبذلك يكون الانسان قد استسلم للظروف دون أن يحاول التأثير فيها: ويترك مصيره للقدر لمحاولة الاستمرار في الحياة، من هذه “القناعات” تولد “عقيدة الصبر” التي تنطوي على الرضا بالمكتوب، او بمعنى آخر قانون القدر الذي ينظم الوجود ويقرر لكل إمرء مكانته ودوره. هذه القناعة هي أفضل وسيلة لتأمين استمرارية الواقع، وتشكل عقبة جدية في وجه التغيير الفعال. 

خلاصة وضعية الرضوخ العربي تجاه فلسطين

أولاً: موقف الأنظمة الحاكمة

إن الأولوية بالنسبة للانظمة الحاكمة هي ضمان استمرارية الحكم، وهي ترى ان المتسلط الاميركي هو الوحيد الذي يمكن أن يقدمها لهم، لذلك لن تجازف في إتخاذ اي موقف اتجاه القضية الفلسطينية يتعارض مع التوجهات الاساسية التي وضعها الأميركي. ولذلك سيتعاملون مع التوجهات الأميركية المتعلقة بخطط السلام في المنطقة بانها أفضل الممكن، وإن تعارضت مع حقوق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه وبناء دولته المستقلة. وهم على أي حال يتمنون كما سبق وأن تمنى رئيس وزراء اسرائيل السابق اسحق اريين حين قال: أتمنى لو أنني أصحو صباحاً وأجد أن البحر قد إبتلع غزة، لأن وجود الشعب الفلسطيني واستمرار معاناته يذكرهم بضعفهم وعجزهم وتواطئهم. ومن المرجح، بل المؤكد أن تندفع الأنظمة الحاكمة في تبنى السردية الاسرائيلية بشأن علاقة الشعب اليهودي بفلسطين، والذي يؤدي بهم الى تغطية تصفية القضية الفلسطينية.

ثانياً: موقف الشعوب العربية

إن الشعوب العربية تعيش مرحلة اليأس من التغيير في ظل إحكام الأنظمة الحاكمة قبضتها على المجتمعات من جهة، وغياب القوى السياسية الديمقراطية والتغييرية من جهة ثانية، والتي تعيش هي الأخرى حالة تفكك ضبابية الرؤية لمسارات التغيير في هذه المجتمعات. والأخطر أن المجتمعات العربية، بلغت من اليأس مرحلة طمس ارادة القتال من أجل الحياة، تاركة مصيرها للقدر، وتبنت عقيدة الصبر وسيلة في مواجهة مأزقها الوجودي.

لذلك فإن موقف هذه الشعوب من القضية الفلسطينية سيقتصر على الدعاء في المساجد لنصرة فلسطين وشعبها، أما مثقفو الانظمة فسيكون لهم دور في نشر رواية “السلام الإبراهيمي” الآتي على دم الفلسطيني وحقه في ارضه ودولته.

خلاصة القول في الشخصية العربية، هي أنها فقدت التناسق والانسجام الداخلي لمختلف أوجهها وعدم التكامل فيما بينها، وتعيش حالة أنطواء على الذات، وضعفت قدرتها على الإتصال بالخارج، وتنحو للاستجابة للدوافع والرغبات الذاتية. وقد أصيبت بالتصدع والتمزق، مما جعلها عاجزة عن المساعي الخارجية لسلخ الذات العربية عن جذورها وإفراغها من معطياتها العقلانية، وإستبدالها بقوالب معلبة استقدمت من الخارج العربي لفرض إلغاء هويتها وتقزيم أصولها وستكون هذه الشخصية أمام سؤال في قادم الأيام: ما هي الطرق الملائمة لإعادة بناء ثقافة عربية أصيلة تزيل غبار الماضي لمحاولة بناء مجتمع عربي ناهض، يعيد للشخصية العربية لحمتها ورياديتها؟؟.

لن تبق المجتمعات العربية بحالة التفكك واليأس إلى ما لا نهاية، مرحلة التمرد وانفجار العنف لا شك قادمة، قد يكون هذا العنف فاتراً أو ناشطا تبعاً للظروف، لكن المهم أن يتيسر لهذه المجتمعات قوى سياسية ديمقراطية، قادرة على توظيف طاقات المجتمعات في عمل تغييري على مستوى المجتمع ككل على نحو يؤدي إلى تغيير موازين القوى ويقضي على أسباب العنف. وفي غياب مثل هذه القوى ستتوجه العدوانية المتراكمة في هذه المجتمعات نحو جماعات داخلية ضعيفة،  أو خارجية من خلال التعصب العرقي والطائفي مع ما يرافقه من ميول فاشية.

Leave a Comment