تصاعدت أخيراً حدة المواجهات على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة مع جنوب لبنان بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله، وارتفعت معها احتمالات توسّع رقعة المواجهات، لتتحوّل إلى حرب مفتوحة وواسعة يشترك فيها العديد من القوى، وربما الدول من الإقليم وخارجه، حتى إنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحدّث في قمّة الدول السبع في إيطاليا عن مسعى فرنسي ثلاثي ضمّ إلى فرنسا والولايات المتحدة إسرائيل، بهدف تخفيف التوتر والحيلولة دون خروج الأمور عن نطاق السيطرة عند الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وهو ما حدا بوزير الجيش الإسرائيلي يوآف غالانت إلى نفي ذلك أو إنكاره، ورفض أن تكون إسرائيل جزءاً من هذا المسعى. وتزامن ذلك أيضاً مع حديث إسرائيلي عن استعداد الجيش في الجبهة الشمالية مع لبنان وجهوزيّته لتوسيع رقعة القتال والحرب بانتظار القرار السياسي؛ فهل آن أوان الحرب المفتوحة على لبنان؟ أم أنّ كل الحديث الذي يجري لا يخرج عن كونه جزءاً من آلة الحرب والدعاية النفسية؟
لدى إسرائيل رغبة في توسيع نطاق الحرب لتشمل لبنان بالنظر إلى اعتبارات كثيرة وعديدة، أبرزها: أولا، الفشل الذي أصابها في حربها وعدوانها على غزّة، حيث لم تُحقّق أيّاً من أهدافها المعلنة، على الرغم من مضي أكثر من ثمانية أشهر على الحرب. ويضع هذا الإخفاق الذي يعترف به قادة مهمّون في إسرائيل الدولة والكيان أمام خطر وجودي كما يعتبر بعضهم، وبالتالي، فإنّ الإبقاء على الوضع الحالي من دون حلّ قضية الأسرى يعني حالة من الاستنزاف الدائم الذي سيقوّض بنيان إسرائيل عاجلاً أم آجلاً، والنزول عند شروط المقاومة الفلسطينية لا يقلّ خسارة وخطراً. ولم يعد الإجهاز على المقاومة ممكناً. وعليه، يشكّل الهروب إلى الأمام وخلط الأوراق من جديد أفضل مخرج وليس حلاً، ومن هنا تتولّد الرغبة لتوسيع الحرب باتجاه لبنان، علّ ذلك يخلط الأوراق ويشكّل حلاً مقبولاً؛ لكنّ ذلك لا يعنّي حلاً مضموناً.
ثانيا، هناك عشرات آلاف المستوطنين هجروا منازلهم ومستوطناتهم في شمال فلسطين باتجاه الداخل والوسط، بفعل الحرب عند الحدود، ويرفض هؤلاء العودة إلا بعد حلّ قضية وجود حزب الله بالقرب من الحدود. بمعنى آخر، يريدون ضمانات لبقائهم، وهو أمر غير متوفّر حالياً. وتشكّل هذه الوضعية كلفة كبيرة، فضلاً عن اهتزاز الثقة بقدرة الدولة والجيش على حماية المستوطنين، وهو ما يُعدّ ضربة لفكرة الاستيطان في أساسها. وعليه، الحكومة معنية بإيجاد حلّ لأولئك. ومن بين الأفكار المطروحة توسيع رقعة الحرب إذا لم تحلّ هذه المسألة عبر الدبلوماسية، وهو ما يتولاّه أكثر من طرف خارجي من دون التوصّل إلى حلّ.
ثالثا، تعتقد الحكومة الإسرائيلية الحالية أنّ الظرف مناسب لشنّ عملية عسكرية واسعة تسدّد فيها ضربة قويّة لحزب الله، وتتخلّص من أسلحته التي تشكّل تهديداً حقيقياً لها ولمصالحها، كما تحدّ من قدرة إيران على التأثير في مسار الأحداث في الإقليم بشكل عام، ما يفتح الطريق مجدّداً أمام إسرائيل للسير باتجاه تطبيع العلاقات مع دول المنطقة من ناحية، وتزعّم المنطقة من ناحية ثانية. غير أنّ هذه الرغبة تصطدم بعوامل كثيرة تفرض على الإسرائيلي التفكير ألف مرّة قبل الشروع في أيّة خطوة تنفيذية عملية، لعلّ أبرزها: أولا، القدرة الحقيقية التي يتمتّع بها حزب الله لناحية إمكاناته العسكرية وقدرته على توجيه ضربات استراتيجية في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو قد اعتمد استراتيجية التصعيد التدريجي والممنهج الذي يكشف في كلّ مرّة فيه عن نوعية سلاح جديد أكثر ردعاً للإسرائيلي، ويهدف من ذلك إلى تجنّب الحرب المفتوحة وعدم السماح للإسرائيلي بالذهاب إليها ابتداءً.
ثانيا، عدم الرضا الأميركي بشكل أساسي عن الذهاب إلى حرب مفتوحة في المنطقة، لأنّها ستعني انخراطه بشكل مباشر فيها، وهو يتحاشى ذلك، حتى لا تتحوّل المنطقة بالنسبة إليه إلى بؤرة وحالة استنزاف لا يريدها في هذه المرحلة. وعليه، يرفض فكرة توسّع الحرب، ويعمل على تحقيق أهداف إسرائيل من دون الذهاب إلى هذه الحرب المفتوحة، وحتى لا يشكّل ذلك مدعاة لتدخّل دولي من قوى كبرى في المنطقة. ثالثا، ضعف قدرات الجيش الإسرائيلي والحالة النفسية التي باتت تتملّك عناصره وأفراده في ضوء الإخفاقات المتتالية في غزّة، وهو عنصر ليس بسيطاً في أيّة حرب. وتُضاف إليه حالة التخبّط الذي تعيشه القيادة السياسية، حيث تعصف بها الخلافات الواضحة.
بهذه الاعتبارات والعوامل، يمكن القول إنّ أوان الحرب المفتوحة لم يحن بعد على جبهة شمال فلسطين وجنوب لبنان. ولكن لا شيء يضمن ألا تتغير هذه العوامل والاعتبارات بين ليلة وضحاها، أو أن يجرّ الميدان المتقاتلين إلى منتصف الحلبة، وعندها، لا يمكن لأيّ اعتبار أن يحول دون الحرب المفتوحة، أو ربما في حالة جنون أو غضب إسرائيلي عارم يمكن أن تتخذ القيادة قراراً لا تقيم فيه اعتباراً لكلّ العوامل التي جرى ذكرها باعتبارها عوامل لاجمة لانزلاق المنطقة إلى الحرب المفتوحة، وعندها تكون هذه الحرب قد وقعت قبل أوانها.
ما يمكن قوله اليوم وبعد فشل كل محاولات وقف النار وإطلاق الأسرى، إنّ هذه الحرب باتت بلا أفق، وربما صفرية لن تنتهي إلا بانتصار أحد الفريقين.
* نشرت على موقع العربي الجديد بتاريخ 16 حزيران
Leave a Comment