تتزايد أعداد اللاجئين السوريين في لبنان بشكل واضح، رغم انحسار الأعمال العسكرية في سوريا. ولا يُخفى على أحد أن هؤلاء، ومنذ بدء توافدهم في العام 2011، ساهموا في زيادة الضغط على البنية التحتية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان. ورُفِعَت قضيّتهم على المنابر في الداخل والخارج، وتعاظمت الدعوات لإعادتهم إلى سوريا أو ترحيلهم إلى بلدٍ آخر. لكن وسط ذلك، غاب عن بال كثير من اللبنانيين، أن من بين هؤلاء عمّالاً يحتاجهم الاقتصاد اللبناني في بعض قطاعاته، ومنها القطاع الزراعي.
وتستدعي تلك الحاجة ترتيب ملف اللاجئين وإعادة الاعتبار للقانون والمصلحة الوطنية، خصوصاً في ظل تقليص المجتمع الدولي نسبة تمويله احتياجات اللاجئين. وهذا الترتيب، يؤدّي مع الوقت، إلى إزالة الشوائب من هذا الملف، ومن بينها النظر إلى اللاجئين بوصفهم وحدة متجانسة يجب ترحيلها.
عمّالٌ سبقوا الأزمة
تواجد السوريين في لبنان ليس أمراً مستجداً مع الحرب هناك، بل سابق لها بعقود مديدة. عمل هؤلاء في مختلف القطاعات وبشكل أساسي في القطاع الزراعي، سيّما في مناطق البقاع. وهناك، ألِفَ اللبنانيون رؤية الخِيَم التي سكَنَها العمّال قبل أن ترتبط تلك الخيم بمشهد اللجوء المستمر.
حتّى اللحظة، يعمل عدد كبير من السوريين في الزراعة، ويقدِّر رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع، ابراهيم الترشيشي، أن نسبة السوريين العاملين في القطاع “تتجاوز الـ90 بالمئة من مجمل اليد العاملة. والقطاع يعتمد عليهم بشكل كلّي”. ولذلك، يرفض الترشيشي شمل هؤلاء بموضوع الترحيل، خصوصاً وأن وجودهم يسبق الأزمة في سوريا وفي لبنان، ومن ناحية أخرى “لا بديل عنهم. فاليد العاملة الزراعية اللبنانية قليلة، وأغلب اللبنانيين لا يريدون العمل في الزراعة. ومَن يتوفَّر للعمل، كلفته تبلغ 3 أضعاف كلفة اليد العاملة السورية”. ويؤكّد الترشيشي لـ”المدن”، أن الانتقال بنسبة كبيرة من الاعتماد على اليد العاملة السورية إلى اليد العاملة اللبنانية، مع ما يرافقه من ارتفاع للأكلاف “يتطلّب دعماً من الدولة للقطاع الزراعي، وهذا أمر غير متوفّر حالياً”.
ولأن الحاجة لليد العاملة الزراعية السورية كبيرة، ولأن وجود هؤلاء يسبق أزمة اللجوء وتأثيراتها على الداخل اللبناني، يدعو الترشيشي إلى “إيجاد حلّ يأخذ بالاعتبار خصوصية العمال الزراعيين السوريين”، ومن بين الحلول “التعاون بين المزارعين اللبنانيين والأمن العام اللبناني لإصدار إقامات خاصة بالقطاع الزراعي تقونن وجود العمال الزراعيين بضمانة أرباب عملهم، فالمزارع اللبناني يعرف عمّاله منذ ما قبل الحرب في سوريا، وهو يتحمّل مسؤولية وجودهم في أرضه”.
حصر النشاط باليد العاملة
لأن حاجة القطاع الزراعي تبقى لليد العاملة بشكل أساسي، يؤيّد رئيس جمعية المزارعين، أنطوان حويّك، ما يقوله الترشيشي عن تاريخية وجود العمالة الزراعية السورية وموقعها داخل القطاع الزراعي. ولتأكيد دور تلك العمالة يجزم حويّك في حديث لـ”المدن”، أن التضييق على اليد العاملة الزراعية السورية “قد ينعكس على المواسم الزراعية، سواء في زراعتها أو حصادها وبالتالي توفيرها في السوق، وهذا الأمر ينسحب على الأسعار التي قد ترتفع كلّما زاد التضييق على العمّال أو تم ترحيلهم”.
ورغم دورهم الجوهري في القطاع، فإن تراخي الدولة في تطبيق القوانين والرقابة، يسهِّل توسُّع نشاطات العمّال السوريين نحو أعمال تنافس اليد العاملة اللبنانية، ضمن القطاع الزراعي، ومنها بحسب حويِّك “استئجار الأراضي الزراعية ونقل المنتجات بالشاحنات وكذلك الدخول إلى الأسواق الزراعية أو ما يعرف بـ”الحسبة”، وهو أمر يجب ضبطه ممّا يسهِّل على العمال اللبنانيين فرص عملهم في مجالات الاستثمار والنقل والتجارة”.
السيطرة على المخاطر الأمنية
يرفض الترشيشي الدمج بين العمّال الزراعيين وبين مَن يرتكبون الجرائم من السوريين وغيرهم. والتمييز يستتبع التروِّي بموضوع التضييق على اللاجئين، لأن “المطاردة والتضييق الذي تمارسه الدولة اليوم على العمّال السوريين يؤثّر سلباً على القطاع الزراعي”. ولا يعني ذلك بالنسبة إلى الترشيشي أن ما تقوم به الدولة غير صحيح، لكن في الوقت عينه “يجب إيجاد صيغة تحفظ وجود العمّال بشكل قانوني”.
أمّا التذرّع بالمخاطر الأمنية لترحيل السوريين، فهو أمر غير مجدٍ لأن “مَن يتم ترحيله يعود ويدخل إلى لبنان بطرق غير شرعية”، ولذلك فإن حلّ المسألة الأمنية يحتاج إلى ضبط تهريب السوريين إلى لبنان.
وأيضاً، لتطبيق القانون أثر كبير يساهم في ضبط المخاطر الأمنية. فالتشدّد بتطبيق قانون العمل وضرورة الحصول على إقامة وتسجيل السوريين المتواجدين في المناطق عبر البلديات والسلطات المحلية، يساعد في حصر وجودهم ومراقبة نشاطاتهم، وفي هذه الحالة، يمكن الاستفادة من الجانب الاقتصادي للسوريين كما هو الحال منذ ما قبل الأزمة. وهو أمر متّبَع في الدول المتقدّمة التي تستقبل اللاجئين وتصنّفهم وفق حاجاتها الاقتصادية. وفي هذه الحالة، يمكن للبنان الاستفادة من اليد العاملة السورية وترحيل مَن لا جدوى اقتصادية منه أو يشكِّل منافَسة لليد العاملة اللبنانية في القطاعات التي ينشط فيها اللبنانيون. ويترافق مع هذا الإجراء، تسهيل بقاء عائلات العمّال في لبنان، إذ أن الإيرادات التي سيحصّلها العامل، سيصرفها في السوق اللبناني طالما أن عائلته معه، على عكس ما إذا رُحِّلَت عائلته ودخل خلسة إلى لبنان وعمل وحوَّلَ الجزء الأكبر من إيراداته إلى سوريا.
وخلاصة ما يريده أهل القطاع الزراعي، هو ضبط دخول السوريين إلى لبنان أمر صعب جداً، لذلك يجب التعامل مع الوافدين داخل لبنان عبر تنظيم وجودهم استناداً إلى الفائدة الاقتصادية، ممّا يسهِّل ضبط عملهم والاقتصاص من المخلِّين بالأمن، من دون تأثُّر القطاع الزراعي بشكل سلبي من الإجراءات التي تتّخذها الدولة.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 29 آيار 2024
Leave a Comment