*سليمان بختي
تحل هذا العام، الذكرى المئوية لولادة المطران الراحل غريغوار حداد. وبقدر ما نستعيد صورته والمواقف والدور والذكرى والملامح، بقدر ما ينتابنا الشعور الممض بأنه من الصعب أن يعيد المجتمع اللبناني إنتاج ظاهرة بحجم المطران حداد.
ولد نخلة امين حداد في سوق الغرب، جبل لبنان، العام 1924، لأب بروتستانتي وأمّ كاثوليكية. درس في مدرسة القرية ثم انتقل إلى مدرسة النهضة التابعة لدير القديس جاورجيوس الشير. ومنها إلى الاكليريكية الشرقية حيث نال البكالوريا. تابع دراسته اللاهوتية في الجامعة اليسوعية. وسم كاهناً في دير الشوير على يد المطران فيلبس نبعة، متخذاً اسم غريغوار إعجاباً بالبطريرك غريغوار حداد، بطريرك الروم الارثوذوكس الذي عرف بزهده وتواضعه ومساعدته للفقراء وعلاقته الطيبة مع المسلمين. تولى بداية مهام أسقف مساعد لمطران بيروت ثم انتخبه السينودس سنة 1968 كمطران لبيروت وجبيل وتوابعها حيث نظم العمل الرعوي ونشاطات الابرشية. أطلق برفقة المهتمين مجلة “آفاق” التي طرحت أفكاراً مختلفة ونقاشات حيوية من خلال مقالات وأبحاث روحية ولاهوتية واجتماعية نوعية وعميقة. هذا النشاط الفكري والاجتماعي عرضه لمشاكل ومواجهات مع الكنيسة، فقررتْ تنحيته ومنحه لقب ابرشية أضنه الفخري. لم تُوقف هذه التنحية نشاط المطران حداد، إذ عاد لأداء بعض المهام الكنسية من حين لآخر مثل إدارة ابرشية بعلبك ثم صور، إلى حين انتخاب مطران جديد لها.
تنقل المطران حداد في إقامته بين دير المتوحدين في فاريا، ومقر البطريركية في الربوة. ولبث على همته ونشاطه ونضاله في المؤسسات التي أنشأها وأدارها حتى أخر أيامه وتوفي في العام 2015. وكانت جنازته جامعة لكل من أحبه وتأثر به من مختلف المناطق والجهات والطوائف. ترك المطران كتباً عديدة نذكر منها “العلمانية الشاملة” و”تحرير المسيح والإنسان” و”المسيحية والمرأة” و”البابا ولبنان”. كما كان لديه اهتماماً مميزاً باللغة العربية إذ ترك ايضاً كتباً في شرح قواعد اللغة العربية ومشكلاتها. كان أول رجل دين شطب المذهب عن هويته. أسس العام 1961 “الحركة الاجتماعية” لتحقيق التنمية الاجتماعية في كل المناطق، وكان لها دور اغاثي خلال الحرب اللبنانية. جمعية تهتم بالإنسان، كل إنسان، وكل الإنسان، وتسعى إلى تفعيل دور المواطن وتوعيته وتوعية المجتمع على قضاياه الاجتماعية والاقتصادية ومطالبة الجهات المسؤولة بتطوير سياسات تؤمن الحاجات والحقوق الأساسية لأكثر الفئات تهميشاً، إضافة إلى التزام الحركة باللاطائفية واللاحزبية واللاعنف.
أصرّ المطران حداد على رفض الانتماء إلى مجتمعات طائفية مغلقة على نفسها وعلى امتيازاتها. أصرّ على الانتماء على كنيسة المسيح رافضاً المال والملكية والاستثمار والمشاريع. أرادها كنيسة خادمة للمسيح، لا مدافعة عن الإقطاع السياسي والرأسمالية وتساهم فيه، وتلتزم بمسائل تهم كل الناس وتسير معهم في سبيل التحرر الاقتصادي وتحقيق أنسنة المجتمع وتنميته الشاملة. اما في موضوع العنف ومعضلاته في لبنان فاعتبر ان النضال اللاعنفي هو طاقة تعبيرية انسانية ترتكز على الاحترام الكامل للانسان وقيمة الانسان ورقيه في التفاعل والتعامل. وفي موضوع هوية الكنيسة، رفض المطران حداد، الكنيسة المرتبطة بالحضارة الغربية وقال: “أريد كنيسة ومسيحيين يعتبرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي ويشاركون في قضاياه ونضاله وأمانيه نحو التحرر وبناء مجتمع متطور لأعضائه كافة”. وفي هذا السياق اندرج موقفه من الشعب الفلسطيني والتعاون معه في كفاحه من أجل استعادة حقه في وطنه. وكذلك المساهمة في الكفاح الدائم الذي يقوم به العالم الثالث للتحرر من كل أنواع الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي.
كما أولى المطران اهتمامه بالحوار الإسلامي المسيحي، والنشاطات المشتركة بين المسلمين والمسيحيين من مختلف الطوائف لتبديد الأوهام وسحب الذرائع وتصحيح الصور النمطية والمسبقة. هذه الأفكار والطروحات طوّرت رؤية المطران حداد للمناداة بالعلمانية الشاملة في مواجهة الطائفية. علمانية بمعناها غير المعادي للدين وتراعي أوضاع البلد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ولا تلغي الطوائف بل تبني المواطنة الواحدة المؤسسة على المساواة والعقل والحرية. كما حث الشباب والشبان للإقبال على الزواج المدني. وفي العام 1998، أسس المطران حداد “تيار المجتمع المدني” واستكمل من خلاله نضالاته المستجدة في إطار لبنان بعد إتفاق الطائف.
هل تتحمل الكنيسة كل هذه الأفكار والطروحات والممارسات العميقة والموضوعية والبناءة لاجل بناء الإنسان والمجتمع في بلادنا؟ لذلك سُمّي “المطران الأحمر”، ومطران اللاهوت الإنساني. وبقي همه الوحيد إعلاء قيم الانسان والإنسانية.
أذكر مرة التقيته في منزل الباحث الراحل هشام شرابي، في جل البحر في بيروت. بدا من عينيه أنّه ما زال يحمل الأمل في إمكانية التغيير في بلادنا. أصغى بعمق وانتباه لطروحات هشام شرابي حول الحركات الاجتماعية ودورها في التغيير في العالم. روى لنا بمتعة ومرارة ما سمّاه ابتذال تدخل رجال الدين المتزايد في جوانب الحياة كافة، خصوصاً الفتاوى والاجتهادات الإذاعية والتلفزيونية والهاتفية. وأذكر إنّه قال يومها: “الايمان مطلق، أما الأديان فنسبية. وبرغم اختلافها فالإيمان واحد. وكل إيمان لا يكون غرضه خدمة الإنسان هو إيمان صنمي”.
في 13 حزيران 2002 تعرض المطران غريغوار حداد لحادث اعتداء امام مبنى تلفزيون “تيلي لوميار” على يد شاب مسيحي متعصب، أراد أن يعاقب المطران. في تلك اللحظة، كان حتى التعبير عن الرأي في لبنان في مأزق مستحكم ودونه أهوال. وبعدها بسنوات قليلة، أصيب المطران بمرض عضال ألزمه الفراش. وفي العام 2015 رحل المطران غريغوار حداد وفي قلبه مرارة كبيرة وإيمان عظيم، وخسرنا بغيابه إحدى أنبل قوى التنوير في ليل بلادنا المظلم.
*نشرت في صحيفة المدن الالكترونية يوم السبت الموافق في 2024/05/25
Leave a Comment