*سومر شحادة
تكاد الحرب الأهليّة اللبنانية تكون سمةً مُشتركة في الرواية اللبنانية، وما تزال الحرب موضوعاً سرديّاً لُبنانيّاً لمَن عاش سنوات الاقتتال، أو مَن صنعت تلك السنوات مصيره. ورواية “يوم الشمس” للروائية اللبنانية هالة كوثراني (1977) مثال لجيلٍ أنجبته الحرب الأهلية اللبنانية، لجيلٍ من الكتابة التي أنجبتها الحرب. فصورة الحياة التي ترسمها لبطلتها، تسيرُ فيها جنباً إلى جنب؛ الرغبة في النجاة من الماضي مع الرغبة في أن تقفز إليهِ. والنص يجمع رغبتين متنافرتين، إحداهما تريد للماضي أن يعيد نسجها على صورته، والأخرى تريد أن تُفتّت الماضي بالمطلق، خاصة عندما نعرف أنَّ “رؤيا” نشأت مع فقدٍ غير عادي، نشأت مع فقدِ الأم. مع ذلك، الرواية ليست عن الفقدِ المجرَّد للأم، بقدر ما هي عن قتل الأمّ، عن اختطاف الأمّ. والحدث الذي يبدو أُسريّاً في بداية النصّ، يتّضح مع نهايته أنَّه حدثٌ شائك ومعقّد وعبَثي؛ إنَّه حدَثٌ “لُبنانيّ” بكلماتٍ أوضح. وتلك الحياة المُضطربة ليست إلّا اضطراباً صنعَته الحرب، وخلّفته الحرب، وهو اضطراب الحرب نفسها.
لا تظهر الحرب في رواية كوثراني صراعَ معسكرات تقليدياً، وإنَّما يتفاوت ظهورها مع تفاوت وعي الشخصية بحياتها وبحياة مَن جاورها، خاصة مع اضطرار “رؤيا” إلى تغيير سكنها، بعد الفضيحة التي سبَّبها هروبها إلى صيدا، كي تبحث عن والدتها، وقد عرفت أنَّها ليست ميّتة كما دأبت عمّتها على القول، وإنَّما والدتُها رسّامة شهيرة وناجحة. البحث عن الأمّ، يضغط على النصّ، وهو لُغزٌ يُسيطر على كلّ الحكاية، كما لو أنَّ حياة البنت، لم تكُن أكثرَ من محاولة للتعافي من الفقدان، وهو مجدّداً ليس فقداناً عادياً، وإنَّما هو فقدانٌ سبَّبته فوضى الحرب الأهلية، بهذهِ الصورة، هو فقدانٌ للبنان نفسه. ويتأكَّد هذا الفقدان في الصفحات الأخيرة مع مغادرة “رؤيا” للبنان بمجرّد أن كشفت عن لُغز حياتها، لغز مقتل والدتها. لغزٌ فكّكته الكاتبة في زمنَين، زمن الحرب 1985، وعام 2019، وقد أنجَزت كوثراني بالاتّكاء على هذَين الزمنَين صورةً للبنان الذي لم يستفد من أيٍّ من دروس الحرب الأهلية، وهذا جزء من العبث الذي انتهت إليهِ مصائر الشخصيات.
حكاية عن مدينة وبلدٍ لا يملك الناسُ فيهما مصائرهم
الرواية متآلفة في كلِّ عناصرها، سردُها منسوجٌ على طبقات، سردٌ بارع، لبنان نفسه ببُعده الاجتماعي والسياسي، ليس أكثر من طبقة شفيفةٍ تنسج فوقها كوثراني حكاية “رؤيا” ووالدتها. النَّصّ مرثية لبيروت، ويذهب القارئ إلى هذا الاعتقاد، عند النظر إلى حياة “رؤيا” ووالدتها التي غالباً ما تتطوّر وتنضج خارج بيروت. بيروت تظهر على أنَّها جرحٌ لا يلتئم، تعود إليهِ الشخصيات، كي تبحث عن سُبلٍ لالتئامه، كما لدى نديم الذي عاد من أميركا كي يعترف بماضيه، وما إن يعترف حتى يغادر مجدّداً. بيروت جرحٌ في حياة ساكنيها، وهذا الحال، كما لو أنَّه صار جزءاً من تعريف المكان، جزءاً من بيروت، من حجارتها وبشرها. حتى إنَّ الكاتبة لا تقف طويلاً عند فوضى العصبيات السائدة، خاصة مع التسليم الذي بات سائداً بعد الحرب، بأنَّ قادة المليشيات صاروا زعاماتٍ وطنية. وليس للشخصية الرئيسية في الرواية، أن تفعل الكثير، فلا نراها إلا في سعي مرير كي تكشف عن الماضي، وما يعنيها، ليس لبنان، وإنما والدتها التي فقدتها في بلدٍ لا يملك الناسُ فيه مصائرهم.
إذاً، تسيرُ الحكاية بين زمنين، وهي مكتوبة، كما لو أنَّ كُلَّاً منهما صنع الآخر. مفهوم وشائع أن يصنع الماضي الحاضر، لكن هنا، وعبر شخصية “مالك”، ابن ناطور البِناء الذي انتقلت إليه “رؤيا” مع أبيها وعمّتها سنة 1985، ابن الناطور الذي دخل الحرب، وصار حزبيّاً، لكي يشعر بأهمّيته فقط، وبأحقيّته للحُبّ. وهو “مالك” العاشق الصامت إذاً، الذي تتعرَّف إليهِ “رؤيا” بعد انتقال عائلتها إلى منطقة في بيروت. نكتشف أنَّه لاحَق تفاصيل “رؤيا” كلّها. وصنع لها، من غير أن تعرف، حياةً عوض تلك التي فقدتها، عوض تلك التي ساهم هو نفسه في سلبها إياها. وبدا أنَّ ذلك الشخص الذي بصعوبة تتذكّره “رؤيا”، يمتلك مفاتيح ماضيها كلّه؛ سحر الافتتان الأول، سحر الحبّ الأول، يبلغُ حداً أنَّه يعيدُ بدءاً من لحظة في عام 2019، تأليف الماضي الذي كانت “رؤيا” تعتقد أنَّها تعرفه.
الرواية بمجملها، نَحْتٌ وتعرية. وهذا يحدث بموازاة شخصية الأب، مريض الزهايمر الغائب وراء ستارٍ ثقيلٍ من النسيان، وربما هو ستارٌ ثقيلٌ من الذنب، وربما هو ستارٌ ثقيلٌ من الضعف، وهو مثالٌ لجيلِ الحرب ممَّن سلَّموا الآخرين، أو الزعماء أقدراهم. ورواية كوثراني مع ذلك مشغولة بالفنّ، بقدرِ ما هي مشغولة بالواقع اللبناني، ليس على مستوى البناء فقط، بل أيضاً باستخدام مفردات الفنّ نفسها، خاصة عندما نعرف، أنَّ اللُّغز الذي هو لُغز حياة الشخصية، بدأ بإعلان نفسه عبر لوحة وصلت إليها، وهي آخر لوحة رسمتها الأمّ بعد عودتها من اليابان، للاستقرار في بيروت واستعادة ابنتها، وقد رسمتها هدية لابنتها في زمن اشتداد الحرب، لكن اللوحة تأخّرت عُمراً كاملاً كي تصل، وكلَّفت الأم حياتها، قبل ذلك.
تتآلف فنون عدّة في فضاء الرواية، ليس في أسلوب الكتابة فحسب، وإنَّما في عناصر الرواية عينها. نعرف أنَّ “رؤيا” مهتمّة بالخطّ الكُوفي، وهي تتعامل مع الحروف تعامُلاً يُظهر جمالَ العربية، يُظهر سعة الفنّ.
الرواية الصادرة عن “دار نوفل/ هاشيت أنطوان”، عام 2022 رواية تأخذ قارئها إلى لبنان، إلى بيروت، بقدرِ ما تأخذهُ إلى الفنّ، أسلوبيّاً في كتابتها، وعبر لوحات الخط العربي التي ليست مجرَّد لوحات، وإنَّما هي حيواتٌ تكثَّفت في وقتٍ، وكُتبَ عليها الضياع في وقتٍ، وكُتبَ عليها الغياب في وقتٍ، ثمَّ بُعثَت في لحظة، وأعادت ترتيب زمن الشخصية، زمن الحكاية، زمن لبنان برمَّته.
* نشرت في العربي الجديد بتاريخ 15 نيسان / ابريل 2024 والكاتب روائي من سورية.
Leave a Comment