د.زهيدة درويش جبور*
من البديهي أن ثقافة الفرد هي من المكونات الأساسية لثقافة الجماعة، لأنه ليس مجرد وريث لقيم يتلقاها، ولا هو مجرد مرآة عاكسة للصورة، بل منتج أيضاً لقيمه الخاصة التي تدخل في علاقة جدلية مع قيم الجماعة فتفعل فيها كما تنفعل بها. إذا سلمنا بذلك أدركنا أهمية دور المرأة في إنتاج ثقافة جديدة ومجتمع جديد، إنطلاقاً من كونها أماً لأن العائلة هي أساس المجتمع، وهي الحاضنة الأولى للقيم والمرجعيات. من هنا يبدو حضور المرأة في الثقافة مكملاً لحضورها في العائلة فالواحد مرتبط بالآخر وفق علاقة جدلية.
المرأة تسهم إذن في إنتاج الثقافة، وهناك مسؤولية تقع عليها في إحداث التغيير سواء عن طريق التربية داخل الأسرة أو الانخراط في شتى ميادين الحياة العامة والعملية. وهي إذ تمارس مهامها في شتى ميادين الحياة وتشارك في تطوير البنى الاجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية تفرض عملياً تغييراً في البنية الثقافية. إلا أن مسؤولية خاصة تقع على المرأة المثقفة وتحديداً على المرأة الكاتبة. فهل أسهم الأدب النسائي في إحداث التغيير المنشود؟ هل لإبداع المرأة العربية أفق مغاير؟ هل يكشف عن نظرة مغايرة للإنسان والعالم؟ هل يطرح أسئلة جديدة؟
مما لا شك فيه أن للمرأة طريقة حضور في العالم تختلف عن الرجل، إذ يذهب بعض الباحثين الى أن المرأة أكثر تصالحاً مع الطبيعة، وأن علاقتها بالأشياء ليست علاقة سيطرة وتسلط، بل انسجام وتناغم ومشاركة. فالمرأة التي تتقن بطبيعتها فن الإصغاء لقوانين الطبيعة في جسدها، ولحركة الطفل في أحشائها، والتي تدفعها الأمومة الى التنازل عن أنانيتها وتغذي لديها لذة العطاء فتجعلها في حالة انفتاح دائم على الآخر، واستعداد لاستقباله واحتضانه، قد تسهم في انتاج ثقافة جديدة لا تقوم على الإخضاع والتسلط والهيمنة التي تتسم بها الثقافة الذكورية، بل على الانفتاح على الآخر، إن لم نقل على محبة الآخر. ولعل من أهم الأسئلة التي تسهم كتابة المرأة العربية في صوغها، سؤال الذات الفردية، ووضعها الاعتباري داخل المجتمع العربي. فالثقافة العربية بشكل عام تقدم الجماعة على الفرد، والنسق على الفرادة، وتعتبر كل خروج عن السمات المشتركة خطراً يهدد اللحمة والتماسك. وذلك ينطبق على الثقافة السائدة وعلى ثقافة التغيير الذكورية على حد سواء.
من هذا المنظور، يمكن التأريخ لكتابة إبداعية نسائية تغييرية في لبنان منذ الستينيات أو بالتحديد منذ صدور رواية ليلى بعلبكي “أنا أحيا” (1958) التي تكشف بدءاً من عنوانها عن رغبة في تأكيد وجود الفرد في مواجهة الجماعة، وتعلن التمرد على الثوابت والقيم والمدرسة والعائلة والجامعة بحثاً عن الحرية وتحديداً عن الحرية الفردية التي بدونها لا معنى لكل العقائد الثورية أو الحركات النضالية لتحرير الأوطان. ويمكن القول إن مرحلة الستينيات قد شهدت ولادة المرأة الجديدة، ومعها ولادة أدب نسائي يتجنب الوقوع في مأزق حصر نفسه في التعبير عن الذات، ليتجاوز ذلك الى التعبير عن هموم المجتمع ككل، بل ليكون أداة تحرير للرجل نفسه، وليؤسس لرؤيا جديدة ليس فقط للعلاقات بين الجنسين بل لعلاقة الإنسان بالعالم من حوله. وقد تبلور هذا الاتجاه في ثمانينيات القرن المنصرم عبر رواية الحرب اللبنانية.
تكشف إتيل عدنان في روايتها الصادرة تحت عنوان “ست ماري روز”، عن إحساس عميق بالثورة على الظلم، وعن وعي ثاقب لجذور العنف في المجتمع الشرقي بشكل عام: إنه القمع: قمع المرأة من قبل الرجل، وقمع الرجل من قبل المجتمع، وقمع الشعوب من قبل الأنظمة المتسلطة. تنظر الكاتبة التي التزمت النضال من أجل القضايا العربية الى الأحداث من منظار سوسيولوجي سياسي فتعرّي المشاكل المستترة تحت واجهة المجتمع اللبناني البرّاقة، بل تتجاوز برؤياها النقدية الإطار اللبناني الى المجتمع العربي الأوسع، الذي يعاني من جمود الفكر وهيمنة سلطة تؤبد نفسها ومصادرة للحريات الفردية. وتتبنى هدى بركات في رواية “أهل الهوى” لغة العنف لتحاكم فظاعة الحرب وقدرتها الخارقة على التدمير. لم تعد الكتابة النسائية، إذن، مجرد كلام لطيف، أنيق، فقد خرجت من سجن أنوثة تقليدية تقيمها في عزلة عما حولها لتعبّر عن قدرة على احتضان الواقع بكل تعقيداته وعلى تعريته في آنٍ معاً.
نكتفي بهذين النموذجين نظراً لضيق المجال لنستنتج أن ما يميز الكتابة الإبداعية النسائية المعاصرة بشكل عام هو أنها لا تقتصر على المناصرة، أو على الطابع النضالي دفاعاً عن قضايا المرأة، بل تكشف عن علاقة تفاعل مع الرجل، وتنجح في إضفاء نظرة اجتماعية على القضايا السياسية وفي إخراجها من قالبها الجاف لإعطائها معنى إنسانياً. وفي كل ذلك إثراء للأدب ومساهمة في تطوره.
*نشرت في المدن يوم الجمعة 2024/03/08
Leave a Comment