يوسف بزي*
لم يجد المعتصمون أمام قصر العدل كلاماً متبقياً أو مفيداً بعد سنوات من استنفاد كل ما يمكن قوله. رفعوا عبارة واحدة: “بالصرامي”. وهي أشد تأثيراً من مرادفها “بالأحذية”.
وصل الأمر بالمعتصمين، المواظبين على الاحتجاج ضد الجسم القضائي-السياسي، إلى انتفاء أي حرج في استخدام هذه العبارة. لم يستهولوا مخاطبة قضاة لبنان بكلمة من هذا الوزن.
بدوره، الرأي العام لم يستهجن هذا التعبير، ولم يغضب أحد من هكذا لغة في مخاطبة أهل قصر العدل. وكأن شتم القضاة أو تحقيرهم أو ذمهم بات أمراً مسلماً به.
ومن الواضح أن المعتصمين ليسوا من الغوغاء. كما أنهم ليسوا شلة حزبية مستقوية أو عصبة ميليشياوية. إنهم مجرد مواطنين، وأهل لضحايا مدنيين قتلوا في جريمة تفجير مرفأ بيروت.
والرأي العام نفسه الذي سمع وشاهد وقرأ على امتداد سنوات ما يحدث في كل القضايا القضائية، بدا متيقناً أن الغضب من القضاة أمر طبيعي جداً وبديهي. بل إن الكثير من الحقوقيين والقانونيين لم يخفوا استياءهم الشديد من سلوك القضاة وقراراتهم، عدا عن الفضائح المتناسلة في النظام العدلي القائم، الذي لا يمكن تنزيهه عن مفاسد النظام اللبناني المعروفة.
أن يصل الأمر بمواطنين (معظمهم أمهات) إلى حد الاتفاق على انتقاء مفردة واحدة بالغة الإهانة، كشعار لاعتصامهم، يستدعي لا التشكيك في أخلاق هؤلاء ومدى تهذيبهم، بل التساؤل عن سبب “اضطرارهم” لهكذا لغة، وهم الذين أمضوا نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، ينظمون على الدوام التظاهرات والاعتصامات المدنية والسلمية، ويرفعون العرائض ويصدرون البيانات، والتي ليس فيها إلا مطلب واحد: العدالة. ومن المفترض أن هكذا مطلب لا يخصهم وحدهم بقدر ما يعني الشعب اللبناني كله.. إن أراد أن يكون “شعباً”.
وأغلب الظن أن الرأي العام يدرك تماماً ما جرى منذ الرابع من آب 2020 وحتى اليوم: سلسلة مخزية من الإجراءات القضائية لا يمكن أن يقبلها قضاة مترفعون ونزيهون ومستقلّون.
لم يأت شعار “بالصرماية” من فراغ. وعلى الأرجح أن العبارة سليلة سنوات مديدة من الانتهاك السياسي المشين لمبدأ العدالة من ناحية، والاعتداء الفاجر والمديد على الحقوق والقيم المتمثل بنظام الفساد السياسي والمافياوي المتحكم بالدولة والمجتمع.. وبالقضاء أيضاً.
إن السقوط المريع، أخلاقياً، لما صار يعرف بالعصابة الحاكمة، والفجور الذي أظهرته إبان الانهيار الاقتصادي، وابتذالها الفظيع للغة السياسية، أجبرت جموع اللبنانيين (بمئات ألوفهم) على النزول إلى الشوارع حاملين الشتيمة أولاً. العبارات البذيئة والمقذعة، بدت وحدها هي “المناسبة” لمخاطبة تلك العصبة.
وقبل ذلك، لا ننسى أن من أهل تلك العصابة جاءت تلك العبارة: “المحكمة الدولية وصرمايتي سوا”، التي قيلت رفضاً للتحقيق وللمحاكمة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والاغتيالات المروعة الأخرى بحق شخصيات معارضة.. فتكرس معها احتقار كل مسعى لـ”الحقيقة والعدالة”، واستسهال الدوس على كرامة القضاء والقضاة، ليس عفوياً بل بقرارات سياسية مشهودة ومعلنة.
لا ننسى أيضاً كل ما كان يتفوه به السياسيون وأتباعهم عبر التلفزيونات، وكيف يتقاذفون كل يوم العبارات القذرة، التي باتت قاموساً ضخماً تتميز به “الثقافة” السياسية والإعلامية اللبنانية.
فأمس مثلاً، وفي الجلسة النيابية المتلفزة، لم يقصر النواب في تسفيه اللغة والقدح والذم والتشهير ورمي الاتهامات الخطيرة، واستخدام العبارات المسيئة والمهينة.. وهو أمر ليس استثنائياً، بل امتداد لتاريخ من الجلسات التي لم تخلُ أحياناً حتى من التهديد بالقتل.
ربما يحق لـ”مجلس القضاء الأعلى” أن يهب مدافعاً عن “هيبة القضاء” رفضاً لعبارة “بالصرماية”. لكن فعلياً، ما الذي بقي من هيبة القضاء على يد “الزعماء” والرؤساء والوزراء والنواب والموظفين الكبار (من أمثال رياض سلامة) وقادة الأحزاب والأمناء العامين.. وعلى يد كبار القضاة الذين ارتكبوا ما لا يتخيل أي مواطن أن قاضياً يمكنه فعل ذلك؟
إن مراجعة وافية، على الأقل منذ أربع سنوات، لما يجري بين القضاة أنفسهم، ولما يجري في التعيينات والتشكيلات، وفقدان أنصبة هيئات وشغور مراكز، وتعثر المحاكمات، وما لا يعد ويحصى من معضلات تشابه الفضائح.. توحي لنا جدياً أن هيبة القضاء تكاد تتبدد نهائياً.
يمكن بالطبع استرداد هيبة القضاء من شلة أمهات.. لا من الذين توعدوا قاضياً بالقتل، ولا حتى من الذين قتلوا قضاة فعلاً. يمكن للمجلس الأعلى أن يدافع عن كرامة القضاة بوجه زمرة آباء وأخوة ضحايا يائسين ومكلومين، لا من الذين أحرقوا صورة قاضٍ أمام قصر العدل، ولوحوا بأسلحتهم بوجه من يريد اعتقال متهم بعملية اغتيال مرة، أو ذاك الذي ساهم بإفلاس البلد، أو المتهم بتفجير عاصمة برمتها.
يقدر هذا المجلس على معاقبة أرامل، لا تنفيذ مذكرة توقيف بحق متهمين بالتسبب بترملهن. ويقدر أيضاً أن يعاقب صحافياً، لا أن يعتقل أحد الذين أجرموا بحق الدولة والشعب اللبناني.
المفارقة المذهلة، أن مجلس القضاء الأعلى، عملياً، غاضب من الذين هم ضحايا غياب هيبة القضاء، ومن الذين طالبوا على امتداد سنوات باستعادة تلك الهيبة.
أرجو أن لا يظن أحداً أننا نهين هنا “هيبة القضاء”.. لا قدر الله.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الخميس 2024/01/25
Leave a Comment