زهير هواري
بيروت 15 كانون الثاني 2024 ـ بيروت الحرية
لا الولايات المتحدة الأميركية، وبالطبع بريطانيا، ومن معهما من دول منضوية في اطار حلف “حارس الازدهار”، ولا الحوثيين اليمنيين والحشد الشعبي العراقي وحزب الله، في وارد اشعال حرب لا تنطفيء بينهما. فقرار إسناد إسرائيل ثابت وله مسارحه بدءا من بواخر وطائرات الأسلحة وصولا إلى قاعات مجلس الأمن والأمم المتحدة. أما مساندة الشعب الفلسطيني في غزة فتتم بحدودها من خلال مهاجمة السفن التي تعبر مضيق باب المندب، أو عبر العمليات التي تستهدف مستعمرات المنطقة الشمالية من اسرائيل، أو تنطلق نحو قواعد التحالف الدولي بزعامة اميركا على الأراضي العراقية والسورية. وعليه يمكن القول إن الرسائل التي بعثت بها اميركا وايران قد وصلت إلى أصحابها، باعتبار أن “سُعاة البريد” يعرفون جيداً العناوين التي تستهدفها. التصريحات التي أدلى بها فرقاء الصراع الفعليين بمن هم اميركا وايران واضحة ولا تحتمل التأويل والالتباس. والواقع أن الحوثيين كانوا قد بادروا ومنذ 18 تشرين الثاني / نوفمبر من العام الماضي إلى مهاجمة السفن التي تعبر مضيق باب المندب وترتبط بإسرائيل أو ترسو بموانئها. وبناءً عليه، ومباشرة، أي في التاريخ نفسه أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن تشكيل قوة متعددة الجنسيات من 10 دول حملت اسم “حارس الازدهار” مهمتها منع هجمات الحوثيين، كما أعلن فرض عقوبات على 13 شخصاً وشركة يقدمون دعماً مالياً من بيع وشحن السلع الإيرانية إلى الحوثيين في اليمن. قبل ذلك في اليوم التالي لهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول كانت بدأت عمليات المساندة من جنوب لبنان.
بموازاة تلك التطورات كانت تعلن كبريات شركات الشحن العالمية من أوروبا والصين وغيرهما عن التخلي عن اعتماد باب المندب ـ البحر الأحمر ـ قناة السويس ـ البحر المتوسط، والتوجه نحو رأس الرجاء الصالح في القسم الجنوبي من دولة جنوب افريقيا. في عملية تستغرق ما لا يقل عن 10- 12 يوماً إضافية، وقد تصل كامل الرحلة إلى 40 يوما في حال قصد البواخر دول مثل الدانمارك والنروج وأسوج في الشمال الأوروبي، ثم أيام للوصول إلى الأسواق الأوروبية والأميركية، مع ما يرافق ذلك من ارتفاع في اكلاف النقل والشحن والتأمين، باعتبار أن الـ 3 الآف ميل الإضافية، يمكن أن تتمدد إلى 11 ألف ميل. هذه الأيام والمسافات الإضافية ستترافق مع ارتفاع في استهلاك الوقود والأجور والتكاليف التشغيلية وتأخير في كلفة وصول البضائع المرسلة من الصين والهند وماليزيا والفيليبين واندونيسيا وبنغلادش إلى أصحابها في الاسواق الأوروبية والاميركية.
في المقابل تابع الحوثيون عملية مهاجمة البواخر العابرة لباب المندب والمتجهة منه إلى ميناء ايلات الإسرائيلي في العقبة. بينما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يصعدون من مواقفهم المنددة بعملية تهديد واحد من أهم شرايين التجارة العالمية وحريتها. وهو ما ترافق مع صدور المزيد من التحذيرات باعتماد الرد بهجمات عسكرية لعلاج الوضع. ثم وصل الامر إلى مجلس الأمن الدولي وصدر قراره الذي تحفظت عليه روسيا والصين، دون أن يعني إجازة الهجوم على الموانيء والمواقع اليمنية. أكثر من ذلك أخذت الصحف ووكالات الأنباء بعدها تتحدث عن مواعيد محددة للضربة الأميركية – البريطانية التي جرى تنفيذها في 12 الجاري، واستهدفت عشرات المواقع الحوثية من خلال غارات سلاح الجو البريطاني وصواريخ التوماهوك التي انطلقت من الأسلحة البحرية الأميركية. وكان مسؤول أميركي قد أكد لشبكة “سي أن أن” أن غواصة أميركية نفذت الهجمات على اليمن بالصواريخ. وأكد مسؤول عسكري أميركي آخر استهداف أكثر من 60 هدفاً في 16 موقعاً في اليمن، تتمركز في العاصمة صنعاء ومحافظات الحديدة، وتعز، وحجة، وصعدة. استُخدمت فيه أكثر من 100 قنبلة وصاروخ من مختلف الأنواع. على الرغم من أنه بعد يومين من الضربة قيل إن الصواريخ لم تؤد إلا إلى تدمير نسبة متواضعة من أسلحة الحوثيين، واتهمت اميركا بريطانيا بتسريب المعطيات عن استهدافاتها إلى الحوثيين الذين نقلوا جزءاً من عتادهم العسكري إلى مواقع جديدة. علما أنه بدا واضحا من التعليقات الأميركية أن المقصود من العملية هو توجيه رسالة تحذيرية لإيران باعتبارها المعنية، على غرار ما فعلته ايران بعد اغتيال قاسم سليماني عندما أبلغت الاميركيين بعزمها على الرد بقصف معسكر عين الأسد، وطلبت من الجنود الاميركيين الإحتماء وتلافي نيران الصواريخ، كما ذكر ذلك الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب. والايرانيون الذين سبق ووجهوا احدى قطعهم البحرية الأساسية نحو باب المندب عملوا على سحبها، مؤكدين على قدرة الحوثيين وحدهم على التعامل مع الوضع، معفين أنفسهم من مهمة المواجهة مع الحشود العسكرية الجوية والبحرية لـ “حراس الازدهار”.
بالطبع تأثرت بالاشتباكات والتوترات الكثير من البلدان والشركات وأسعار السلع والخدمات، سواء أكانت استهلاكية أو غذائية أو تتعلق بعقود التأمين بهذا التطور، طالما أن أكثر من 2000 باخرة قد حولت وجهتها نحو الدوران حول افريقيا بدل استعمال قناة السويس. ويبدو أن مصر هي التي دفعت الثمن الأكبر عندما فقدت حوالي 40 % من المداخيل التي تحصل عليها بالدولار الاميركي كرسوم عبور لقناة السويس، وهي نسبة كبرى تضاعف من معاناة الاقتصاد المصري. والمعروف أن قناة السويس تشكل أهمية كبرى على مستوى المواصلات البحرية العالمية، إذ تعد طريقاً تجارياً حيوياً يربط بين آسيا وأوروبا والاميركيتين استطراداً، وتتعامل مع حوالي 12% من قيمة التجارة العالمية، و30% من حركة الحاويات العالمية، وما يزيد عن ترليون دولار سنوياً هي قيمة البضائع التي تمر عبرها.
لكن ما يجب التوقف عنده هو ما شهده العراق من قصف للمواقع التي يشغلها التحالف الدولي برئاسة اميركا، بما فيه السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد، وما تعرضت له مواقع التحالف الدولي الذي تقوده اميركا في منطقة كردستان من هجمات بالطائرات المسيرة، وهو ما ردت عليه اميركا بقصف استهدف مواقع قوى الحشد المتهمة بممارسة الهجوم على ثكناتها ومقارها الدبلوماسية. وهو ما أشعل جدالاً سياسياً تبين منه أن الأمور ليست سهلة أمام الاميركيين والحشد الشعبي على حد سواء، كي يمارس كل منهما سياساته الهجومية دون ضوابط. ولعل ما انتهت إليه المواجهة بعد مواقف متوترة وجدل حاد حول بقاء أو انسحاب القوات الأميركية، وحرية تحرك الحشد دون قرارات حكومية والتي شارك فيها كل من رئاسة الوزراء العراقية وحكومة كردستان، والعديد من الكتل البرلمانية في العراق وخارجية ايران، قد انتهت إلى توجيه القصف الذي تمارسه وحدات الحشد الشعبي نحو المواقع الأميركية في الأراضي السورية أو اسرائيل، وليس نحو المواقع الأميركية داخل العراق. وذلك تلافياً لانفلات الأمور عن حدودها وانتقالها إلى مواجهات أهلية وحكومية مباشرة بين المكونات السياسية والعسكرية العراقية. كما لم يكن في الوارد الاشتباك الاميركي ـ الايراني المباشر على الاراضي العراقية.
اذن لا يتعلق الأمر فقط بالتجارة العالمية، بل بالاستراتيجيات البحرية والثنائية لكل من اميركا وايران، علما أن الحوثيين كحلفاء للأخيرة يمكن أن يقدموا على قطع كابلات الاتصالات التي تربط الشرق بالغرب كجزء من الشبكة العالمية والتي تمتد تحت البحر الأحمر في قعر باب المندب ثم دول المتوسط. وتعمد الولايات المتحدة في خطتها إلى إجراء حسابات تتناول دور هذه المنطقة الاستراتيجية الحاسم في الصراع مع التنين الصيني ناهيك بالروسي. فباب المندب وبحر العرب وبالتالي الخليج العربي هي مواقع حساسة للإمساك بمفاصل الاقتصاد العالمي من خلال حركة ناقلات النفط وغيرها من مواد أساسية في حركة التبادل بين الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي والاميركي، ولذلك عمدت السياسة الأميركية مباشرة إلى تكوين حلف الازدهار المزعوم لتحصين موقفها قبل المبادرة إلى توجيه صواريخها. وايران التي كان العديد من قادتها يتباهون أنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية ويتحكمون ببواباتها المهمة، كلفت ذراعها الحوثي بقصف الموانيء الإسرائيلية وإثارة حفيظة اميركا التي ترفض الموافقة على وقف اطلاق النار في غزة، وبالتالي التحدث معها كقوة اقليمية واشراكها في البحث بأوضاع المنطقة، انطلاقا من المشاركة أو المساندة العسكرية للقوى المرتبطة بها، وبالتالي وضع مصالحها في دفاتر حساباتها الإقليمية. وهو ما تدركه اميركا التي قررت جعل البحر الأحمر بحيرة أطلسية بالكامل كجزء من الاستراتيجية الأميركية الغربية، التي تبدأ من الشرق الآسيوي وتشمل منطقة الشرق الاوسط والخليج، دون أن نغفل هنا أهمية الكيان الإسرائيلي كأولوية ضمن هذه الدوائر من الصراعات المحتدمة والتي تمتد من البحر المتوسط إلى بحري الصين واليابان.
أيا يكن، فالخاسر الأكبر من هذا الاحتدام هو الشعب الفلسطيني ومعه كل من اليمن ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية والسودان وارتريا والصومال، أي الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر، بينما العوائد هي اميركية بالكامل مع محاولة ايرانية لحجز حصة إلى حد ما. ويبقى أن نشير إلى أن رفض الولايات المتحدة الأميركية توسيع اطار الحرب والصراع القائم في قطاع غزة من أجل تلافي الضغوط التي تتعرض لها إدارة بايدن داخليا واقليمياً ودولياً لا يعني الموافقة على تغليب التلاعب الإيراني، ومحاولة الحصول على عوائد خاصة به ولمصلحته. كذلك يبدو أن اللاعب الايراني ينتظر من المجتمع الدولي توقيعاً وشيكاً على بياض توصلاً لاتفاقية إيقاف الحرب الممتدة منذ تسعة أعوام في اليمن بما يكرس موقعه، فالاتفاق الذي تم التوصل إليه برعاية صينية مع المملكة العربية السعودية يتطلب التثبيت عبر مرجعية الاعتماد الأميركي الأعلى. وكلّها عوامل ألقت بظلالها، أو بالأحرى كانت حاضرة على طاولة وضع خطط العملية الجوية الأخيرة التي استهدفت الحوثيين، وبموجبها اقتصرت أهداف القصف على توجيه الإنذار الحذر للجماعة الحوثية، وبما لا ينزلق بالأوضاع إلى صراع أوسع أو حرب مفتوحة، وهو بالتأكيد ما تجري عليه التحركات والجهود الإقليمية والدولية عقب هذه العملية. إذن ما هو مؤكد أن اميركا لا تستثمر في اساطيلها وقواعدها فقط، بل تستثمر في الدور الذي تلعبه ايران ومعها الحوثيين، بما يحسم حضورها الاضافي وهيمنتها على شريان حيوي ورئيسي في العالم .. وهذه كلها تنهمر مطراً على “حيازاتها” المنتشرة تحت سماء منطقتنا العربية.
Leave a Comment