*لميس أندوني
باغتت جنوب أفريقيا، إسرائيل، بفتح جبهة قانونية ذات أبعاد سياسية دولية، كانت غير متوقّعة؛ بتحريك دعوى ضد الدولة الصهيونية أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكابها جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. وهي معركةٌ كانت إسرائيل تسعى جاهدة لكي تتجنّبها بكل ما أوتيت من قدرات دبلوماسية ومالية، حتى تتمكّن من تنفيذ مشروعها بدون عرقلة عائق قانوني أو أخلاقي، بدعم كامل من الولايات المتحدة وبعض حلفائها الغربيين.
قبل الدخول في تحليل أبعاد قرار تحريك الدعوى الذي وجّهته جنوب أفريقيا، من المهم التوضيح أن قرار جنوب أفريقيا بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين ليس مستغربا؛ إذ ينسجم مع تاريخ مؤسّستها الحاكمة النضالي، فالمؤتمر الوطني الأفريقي (الحزب الحاكم) قاد نضالا شاقّا وطويلا ونموذجيا، بقيادة نيلسون مانديلا وأوليفر تامبو وأحمد كاثادرا ورفاقهم، ضد نظام التمييز العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا، الذي كان حليفا للدولة الصهيونية ونموذجها لتطبيق نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) ضد الفلسطينيين.
وكانت منظمة التحرير الفلسطينية حليفة لحركة جنوب أفريقيا التحرّرية السوداء، وإن كان من بينها أعضاء بيض ومواطنون من أصول هندية. وكان الزعيم الراحل ياسر عرفات صديقا لقيادة حزب المؤتمر، خاصة مانديلا ورفاقه. وتابعت الفصائل الفلسطينية علاقتها مع الحزب وتأييده، وفتحت حركة حماس خطّا وتوطدت علاقتها مع قيادة جنوب أفريقيا، بعد الانتصار على النظام العنصري بسنوات، خصوصا أن الأخيرة تدعم جهود إنهاء الانقسام الفلسطيني. لذا، تمثل العلاقة بين فصائل المقاومة ومنظمة التحرير وحركة التحرر الوطني الجنوب أفريقية حالة تضامن مستمرّة بين مجموعات وشعوب مضطهدة تناضل أو ناضلت من أجل التحرّر والمساواة.
ويعطي نضال شعب جنوب أفريقيا ضد حكم “الأفركانير” العنصري بُعدا أخلاقيا للقضية المرفوعة ضد إسرائيل، فهي من جهة عانت من قمع واضطهاد وتقويض لإنسانيتها فترة طويلة من نظام مماثل في أغلب خصائصه لإسرائيل، مع الفرق أن المشروع الاستيطاني العنصري الإحلالي الذي تحمله الدولة الصهيونية لا يريد التمييز ضد الفلسطينيين فحسب؛ بل محو هويتهم من الوجود. وهو ما حدا بكل من مانديلا والقسّ ديزموند توتو إلى القول إنّ النظام المفروض على الفلسطينيين أبشع وأقسى من نظام الأبارتهايد الذي كان في جنوب أفريقيا. فقرار رفع الدعوى يأتي من إحساس عميق لدى جنوب أفريقيا بالمعاناة التي يعانيها الفلسطينيون من الدولة الصهيونية العنصرية. والخطوة، وإنْ تعزّز دور بريتوريا السياسي التاريخي في الوقوف في مقدّمة المدافعين عن المظلومين ومناهضي الاستعمار، لها تبعات داخلية كذلك. إذ هناك لوبي صهيوني قوي ومتنفذ في اقتصاد جنوب أفريقيا (على الرغم من أن الحكومة الجنوب أفريقية أوقفت جميع التعاملات التجارية والاقتصادية مع تل أبيب)، أي أن الدعوى ستعرّض حكومتها إلى مؤامرات داخلية. ومع ذلك، صمّمت على خوض التحدّي الشجاع. وبالتالي، لا بد من الدعوة إلى دعم جنوب أفريقيا إذا واجهت تداعياتٍ داخلية، لن تكون إسرائيل وأميركا بعيدتين عنها.
هل هناك فرصةٌ للفوز في هذه المعركة المتوقّع أن تكون شرسة؟ وفقا لحقوقيين دوليين، لدى جنوب أفريقيا مرتكزات دعوى قوية، مبنية بدقة على التعريف القانوني، أن “الإبادة الجماعية” هي “أي عمل جماعي يسعى بوسائل معينة إلى تدمير كلي أو جزئي من نوع محدّد من جماعة إنسانية بصفتها هذه”، لكن ذلك يتطلب إثبات نية إسرائيل في أي تدمير؛ الكلي أو الجزئي، ضد المجموعة المستهدفة، وكذلك تبيان أنّ القصد من عمليات التدمير هو الإبادة الجماعية.
من ناحية جنائية، قد يكون من السهل تقديم الأدلة، خصوصا وأن معظمها مسجّل صوريا وصوتيا، وإثبات القصد من خلال التصريحات الإجرامية للمسؤولين الإسرائيليين التي تهدّد بوضوح بالقضاء على أكبر عدد من الفلسطينيين في غزّة، لكن التحدّي الآخر الذي يجب عدم الاستهانة به هو الشقّ السياسي لنفوذ واشنطن، أن تمارس الضغط على القضاة في محكمة العدل الدولية، خاصة، وكما صرح الخبير الحقوقي الأميركي فرانسيس بويل، أن رئيسة المحكمة، جوان دوناهيو، والتي شغلت سابقا منصب مستشارة دفاع قانونية في وزارة الخارجية في 2009، وبالتالي يمكن التأثير عليها. والمثير للقلق من موقفها المحتمل دورها ذاك (رغم عدم عملها في الحكومة في حينها) في الدعوى التي أقامتها حكومة نيكاراغوا ضد جرائم واشنطن في بلادها، والجرائم كانت مفضوحة في حينها، وربحت نيكاراغوا الدعوى.
أما فريق الدفاع عن إسرائيل فهو غارق في تاريخ العداء للفلسطينيين، ولكن رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، اختار صديقه الأميركي ألان دورشويتس، المعروف بالتحريض ضد الفلسطينيين، والمتهم باغتصاب قاصر، وهي تهمة لم تهمّ إسرائيل، لكن الأخطر هو المحامي البريطاني مالكوم شو، الذي يركز في كتاباته على إعادة صياغة التعريف القانوني لحقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقّ تقرير المصير، لمنع تحرّر الفلسطينيين، ولتجريدهم من حقوقهم ومنع تحرّرهم.
يحب عدم ترك جنوب أفريقيا في هذه المعركة وحيدة، فإسرائيل تجنّد كل إمكاناتها للدفع بإصدار قرار قضائي بوقفها قبل الدخول في نقاش جريمة الإبادة الجماعية. وهي تخشى بشدّة من أن تطالب جنوب أفريقيا بالإجراء الاحترازي الذي يسبق الشروع في المحاكمة، اتخاذ إجراءات عاجلة تطالب فيها إسرائيل بوقف إطلاق النار فورا، حتى لا تُقدم على مزيد من جرائم الإبادة.
على الدول العربية الموقّعة على اتفاقية الانضمام إلى محكمة العدل الدولية الانضمام على الفور إلى دعوى جنوب أفريقيا، وعلى غير الموقّعة تقديم كل الدعم السياسي واللوجستي الممكن. وقرار الأردن إعداد ملفّ للقضية أمر جيّد، لكنه لا يعوّض عن انضمامه إلى القضية، فالمعركة بالنسبة للعالم العربي المهدّد من إسرائيل مصيرية، والتخاذل عن التصدّي لجريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة الغربية يصبح تواطؤاً في التغطية على جميع جرائم إسرائيل.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 07 كانون الثاني / يناير 2024
Leave a Comment