*جهاد بزي
استمرت المقابلة ثماني دقائق إلا قليلاً. إلى اللحظة الأخيرة، لحظة انفجار المذيعة البريطانية جوليا هارتلي بروير في وجهه ووجه عرقه، ظل الدكتور مصطفى البرغوثي دمثاً وخلوقاً ومهذباً. أكثر من ذلك، برهن عن نبلٍ وهو يمتنع عن الضحك عليها بينما تخرج عن طورها وتسقط قناعها ليخرج الأبيض الذي في داخلها ناصعاً وبلا أي مواربة. الأبيض الأبيض الذي لا يرى في العربي الذي أمامه إلا العربي المحبوس في صورته عنه، الذكوري المتخلف الذي نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل جمل.
لم يهزأ البرغوثي من الانزلاق التقليدي للأبيض في فخ نفسه: أنه سيظل يمننك بتورية شعوره بالفوقية عليك، بما أمكنه من حيل لغوية، لكنه حين يفقد صبره سيقفك عند حدك ويعيدك إلى أصلك الذي لا يراك إلا من خلاله. يلوح لك من عليائه بسبابته ويقرّعك على عدم تحضرك وعلى عدم معرفتك آداب التخاطب مع النساء، حتى لو كنّ نزقات مثل جوليا، ومتطرفات مثل جوليا.
دقائق البرغوثي الثمانية معها بدت ثقيلة عليه فعلاً، وجوليا الموتورة تتبرم وتتلفت وتتمايل وترفع حاجباً وتنزل آخر، وتعيد مرة بعد مرة السؤال الذي لم يجد الغرب جواباً عليه بعد: “دو يو كوندم هاماس؟”. هل تدينين قتل 12 ألف طفل بالمقابل، سألها البرغوثي فقالت إنها ليست طرفاً، مع أنها بدأت الحوار بأن أثنت بشدة على اغتيال “الإرهابي” صالح العاروري. يحق لجوليا أن تكون طرفاً حين تريد، وحيادية حين تريد. مورغان بيرس ليس أعلى شأناً منها.
جوليا يمينية متطرفة تعمل في منصة يمينية متطرفة من ضمن إمبراطورية مردوخ الإعلامية اليمينية المتطرفة. السيدة ليست بحاجة حتى لأن تستحي بأنها من ذوات الدم البارد. تتعامل مع الحرب الدائرة الآن كما لو أنها تشجع فريقاً ضد آخر في كرة القدم، مع فارق أن فريقها يقتل لاعبي الخصم وجمهوره معاً. تهلل، حرفياً لما تقوم به إسرائيل. لا ينقصها إلا المشاركة في المجهود الحربي والتوقيع على الصواريخ وحملها على كتفها وتلقيم المدافع. كل حواراتها السابقة مع عرب، أو غربيين منتقدين لإسرائيل، مضت على النحو ذاته: تطرح سؤال ال”دو يو كوندم”، ثم يروح تبرمها يزداد وصبرها ينفد حتى يفيض بها الكيل ويفرغ في آن معاً، فتعلن أنها أصيبت بخيبة أمل عميقة لأن ضيفها لم يجب على سؤالها خلال الوقت الثمين الذي أعطته إياه والذي أمضاه محاولاً أن يكمل جملة واحدة بين مقاطعة وثانية. تنهي حوارها بما يشبه طرد ضيفها. في المقابل، حين تستضيف زميلها المراسل البريطاني الأبيض بدروه، واسمه ليس مهماً قط، للحديث عن الارتكاب الفظيع الذي أقدمت عليه جنوب أفريقيا برفع دعوى ضد إسرائيل، يتحولان إلى راقصي تانغو محترفين. يمضي الحوار بينهما بكل تناغم، وهي تسأله عن رأيه في موضوع الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة فيقول حرفياً إن “عدد سكان غزة ارتفع أكثر من مليون إنسان خلال السنوات ال 16 الفائتة، فأين الإبادة إذن؟” توافقه جوليا، وتبدو كما لو أنها ترافقه بالعزف على الكمان وهو يروي قصة قبل النوم اللطيفة: دخل إلى غزة مع جيش الدفاع، لكنه لا يستطيع الذهاب هناك بمفرده ليس خوفاً من إسرائيل بل من عناصر حماس الذين يقفزون من الأنفاق ليقتلوا الناس. وقد أخبره عسكري إسرائيلي (هذا مصدره) أن الجنود حين يقتحمون المنازل يتوجهون مباشرة إلى غرف الأطفال حيث يكتشفون الأسلحة المخبأة والأنفاق، أسفل أسرّتهم. لهذا إذن قتلت إسرائيل 12 ألف طفل؟ لا. لم تسأله هذا السؤال. كما لم تقاطعه وهو يسهب في شرح سبب دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل وهو أن حكومة هذا البلد (الجميل كما قال) تريد تشتيت الانتباه عن الفقر المدقع وفساد المسؤولين وخلافه من التهم التي يمكن رميها بسهولة على البلد في صورته الغربية الجديدة بعد انتهاء نظام الفصل العنصري. ولأنه من الخطأ إفساد تانغو جيد، لا تقاطعه لتسأله، مثلاً، منذ متى تنتظر جنوب أفريقيا هذه الحرب لتنطلق في تشتيت الانتباه عما يحدث فيها؟
لم يضحك البرغوثي على جوليا مع أنه لا يمكن مقاومة الضحك على جوليا، ليس وجوليا تفتح فمها على وسعه للصراخ فيه، بل كلما فتحت جوليا فمها واندلعت منه رؤيتها الضحلة للعالم، كما اندلع منه إيمانها التام والعميق بأنها وحدها على يقين، وأنها، خاصة في وجه العربي، غير قابلة للشك.
جوليا، وزميلها الذي اسمه لا يهم أحداً، حالتان متطرفتان تلائمان المردوخية التي تقدم العالم وأحداثه وشعوبه بسذاجة تتقصد المعادلة السهلة في تقسيم كل شيء إلى أبيض وأسود، إلى شر وخير، وشرح هذا العالم بصفته سلسلة لا متناهية من الفضائح المتناسلة. هي وهو، ومعهم تيار كامل يضم صناع رأي عام من مثقفين وأكاديميين وسياسيين وصحافيين، متطرفون، لكنهم، في هذه الحرب، ليسوا نافرين عن المشهد العام. مضى على الإبادة والتطهير العرقي اللذين ترتكبهما إسرائيل أكثر من تسعين يوماً، والإعلام الغربي على حاله من غض النظر عن الكارثة التي يتعرض لها الفلسطينيون، والتي لا تقل هولاً عن تلك المراحل الفاصلة في تاريخ شعوب وأعراق، من ضمنهم اليهود أنفسهم، لا يعود ما بعدها إلى ما كان قبلها، وهم أصلاً ما زالوا في المحرقة. هذا الإعلام الذي لا نقص لديه في قاموس المفردات حين يحتاجها، ومنها مصطلح الإدانة والهمجية والبربرية، ما زال، بعد كل ما حدث، مسرنماً يمد ذراعيه على غير هدى أمامه، يمشي في نومه مردداً السؤال نفسه.
هذا الزومبي الذي تمثل جوليا أقصى تجلياته، ليس فيه ما يخيف، أو يخيب آمال من كانوا يظنون فيه غير ما ظهر عليه. هو، على العكس، بات مسلياً ومن شر البليّة. كأن تكون في سهرة مع الأصحاب، فترفع جوليا وتوقفها على الطاولة ثم تقول لها: “اسألي عمّو العربي: دو يو كوندم هماس؟”
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الجمعة 2024/01/12
Leave a Comment