صحف وآراء مجتمع

كريم مروّة الخارج من شيوعيته… رحيل مفكّر لبنانيّ متنوّع وآخر الكبار من زمن اليسار

   *  ابراهيم حيدر

رحل كريم مروةآخر كبار اليساريين اللبنانيين، بعد حبيب صادق ومحسن إبراهيم. طوى صفحة تاريخية كمناضل وسياسي ومفكر خرج من بوتقة الحزب الشيوعي، لكنه إلى حد بعيد بقي منسجماً وأميناً لقناعاته اليسارية من موقع مختلف أكثر انفتاحاً على المكونات اللبنانية. ورغم أنه بات يطلق عليه “الشيوعي السابق” إلا أن كريم مروة اختار الخروج من العمل السياسي المباشر منزوياً إلى التفكير والكتابة، ولم يتخذ خياراً سياسياً معارضاً لحزبه بعد الانشقاقات التي حدثت في 2005، على الرغم من مواقفه المعارضة في النظرة إلى موقع “حزب الله” ودوره في الحياة السياسية.

طوال أكثر من نصف قرن كان كريم مروة ضمن دائرة القرار في الحزب الشيوعي، رفيق جورج حاوي ونديم عبد الصمد، وأكثر المثقفين الحزبيين سجالاً في الاشتراكية والشيوعية قبل الحرب. وكان حاداً في مواقفه إلى حد وصف تنظيمات شيوعية معارضة بـ”اليسار المغامر” قبل أن يقرر الانفتاح والنقد للتجربة السوفياتية. وهو ساهم في تحولات الحزب الشيوعي السياسية والفكرية في مؤتمره العام الثالث 1972، وقبلها كان واحداً من صناع النسخة الجديدة للحزب في مؤتمره الثاني عام 1968. وباختياره المجال الفكري والتنظير للشيوعية قبل أن ينعيها في الألفية الجديدة، لم يكن مروة من المقررين في البنية الحزبية، ولذا كانت تجربته مزيجاً من النشاط السياسي والثقافة.

الشيوعي السابق الذي رحل عن 94 عاماً، كان حتى اللحظات الأخيرة من حياته متوقد الفكر والذاكرة. كان يصر على يساريته رغم نقده للشيوعية والاشتراكية، وهو في الأصل سليل عائلة دينية عريقة من بلدة حاريص في جبل عامل في الجنوب. فجده لوالده كان رجل دين. وشقيق جده كان مرجعاً دينياً. وجده لوالدته كان رجل دين أيضاً. وشقيق جده كان مرجعا دينياً في قم في إيران. ويقال أنه ختم القرآن وهو في عمر الثامنة، ودرس على شيوخ بلدته. واللافت أن مروة أصبح شيوعياً بعد عودته من العراق في عام 1949، فقد عاش هناك سنتين عندما أرسله والده الشيخ أحمد مروة في العام 1947، إلى النجف لمتابعة دراسته فيها مع المفكّر حسين مروة الذي أغتيل في 1987 في بيروت، وهو الذي خلع عمامته وانتسب إلى الشيوعية. ولا يخفي كريم مروة أنه تبع النسيب في شبابه الباكر، ومطالعاته أنذاك في مجلة الهلال والرسالة والكاتب المصري ومجلة الطريق، وكتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وطه حسين وتوفيق الحكيم وجرجي زيدان وعباس محمود العقاد وكثرة من الكتّاب العرب، إلى أن “سميت نفسي قومياً عربياً. وأعطيت لقوميتي صفة مختلفة عما كان سائداً عن الكثير من القوميين العرب”.

لكن قومية كريم مروة سرعان ما تحولت إلى الشيوعية، فبعد انتفاضة العراق عام 1948 أصبح مقرباً للشيوعيين العراقيين، وبدأ بالكتابة الأدبية في الصحافة العراقية واللبنانية، وبعد عودته إلى لبنان قرر أن يكون في الحزب الشيوعي، لكن تأثره بفرج الله الحلو الذي أعفي من مهماته الحزبية أنذاك بقرار سوفياتي لاعتراضه على تأييد قرار تقسيم فلسطين، وبعدد من المثقفين أبرزهم رئيف خوري أرجأ انتسابه الى العام 1952 انطلاقاً من الجامعة اللبنانية وتسلم مسؤولية الطلاب في العام 1954.

لم يكن كريم مروة كثير الحضور في المسؤوليات الحزبية المباشرة، على الرغم من أنه كان سريع الوصول إلى مراكز شبابية وثقافية، وكان عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، ونائباً للأمين العام الذي خرج منه عام 1992 وغادر طوعاً عضوية مكتبه في 1999، ومنذ ذلك الوقت انسحب كريم مروة الى زاويته مختاراً الوجه الفكري ومقرراً الانفتاح أكثر على الجميع.

كان كريم مروة يقدم نفسه في العقدين الأخيرين أنه لبناني يساري منفتح على الآخرين، يُفضل ببساطة أن يناقش ويتفاعل ويرسم برامج ومشاريع. لكنه رغم تجربته الغنية لم يستطع التأثير في إحداث تحولات في الحزب الشيوعي بعد فترة الثمانينات من القرن الماضي وصولاً إلى مطلع الألفية، وربما نقده اللاحق للماركسية والشيوعية جاء متأخراً، عندما صار يقول “إنني آخذ من ماركس ومن سواه. يعجبني ماركس أكثر من سواه، لديه أفكار عظيمة أشرت إلى بعضها وأفكار أخرى انتهت، بهذا المعنى لا أسمي نفسي ماركسيّاً، أعتبر نفسي مفكراً أتمسك بقيم دخل إليها ماركس باسم الاشتراكية”. ولذا برأيه أي كلام عن الاشتراكية والشيوعية لا معنى له، علماً أنه يقول في إحدى مقابلاته إننا “في الحزب الشيوعي اللبناني كنا من الذين يؤيدون دكتاتورية البروليتاريا، لكن في عام 1966 ألغيناها من أدبياتنا واعتبرناها عيباً، وكان برنامج حزبنا حينها برنامج حزب شيوعي لبناني بكل المعاني، ديموقراطي ويعترف بالآخر، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، خرج حينها الحزب من قوقعته؛ لأنه كان أعمى ويعمل ما يملى عليه من الاتحاد السوفياتي”. لكن الحزب فعلاً لم يخرج من قوقعته ومعه كل الحركة الشيوعية العربية، وهو الامر الذي دعا مروة لاحقاً لنعي الشيوعية.

خرج كريم مروة من حزبيته فعلياً في مطلع الألفية الجديدة، لكن قراءاته السياسية النقدية بدأت تظهر بعد العام 2005، من دون أن يعمل على تأسيس نواة سياسية أو يدعم قوى معارضة إن كان في الجنوب أو على مستوى لبنان. ويقال أن مروة كان اقرب إلى 14 اذار التي انطلقت في 2005، انما لم يظهر لديه أي نشاط يكرس دوره السياسي، ورغم انتقاداته للثنائي الشيعي المسيطر على الجنوب لم يضع كريم مروة نفسه في دائرة الاستقطاب أو الاصطفاف منصرفاً إلى الكتابة والبحث خارج القوالب السياسية.

يُسجل لكريم مروة رغم كل التحولات في حياته السياسية أنه كان مثقفاً استثنائياً، منذ كتاباته في مجلة الطريق. كان أول من كتب مقاربة عن المقاومة الوطنية اللبنانية في عام 1985 في كتابه “المقاومة… أفكار للنقاش”، موثقاً عمليات الجبهة، وأصدر “حوارات حول الاشتراكية والديموقراطية والقومية والدين” (1990)، وحول أزمة اليسار والاشتراكية، ومنها بدأت تحولاته بالخروج من الشيوعية، كما أصدر “جدل الصراع مع إسرائيل وجدل السلام معها” (1994)، وكتاب “الوطن الصعب والدولة المستحيلة – حوار بين كريم مروة وكريم بقرادوني “(1996). ومنذ ذلك الوقت بدت الشخصية اللبنانية حاضرة في كريم مروة المفكر، فأصدر كتباً يطغى عليها الجانب الثقافي حول سير وإبداعات المثقفين اللبنانيين” و”الروّاد اللبنانيّون في مصر: في الصحافة والفكر والأدب والفن”…

لم يستطع كريم مروة ان يدفع الحزب الشيوعي إلى إجراء مراجعة نقدية في سياساته وفكره، فهو شخصياً انتقد الحرب الأهلية في لبنان، وأعلن موقفاً ضد العنف، من دون أن يقول كلمة فصل في خطأ مشاركة حزبه الشيوعي سابقاً فيها. ويقول أنه “لا يهمني أن أتكلم عن الحزب الشيوعي الآن. نحتاج الى تفكير جديد”، وأن “اليسار الديموقراطي… مزحة”. كما لم يتخذ موقفاً من سلاح “حزب الله” رغم أنه ينتقده للدفاع عن النظام السوري الاستبدادي، ويقول: “يؤلمني جدًّا كلبناني أن يبقى حزب الله يلعب بالسلاح؛ لأن حزب الله مكون من أبناء شعبي وبلدي، وأنا حريص ألا يموتوا وألا يقتلوا سواهم”. لكن كريم مروة مثقفاً لبنانياً وعربياً بامتياز. ورحيله يطوي صفحة الكبار…

*  نشرت في جريدة النهار يتاريخ 11 كانون الثاني 2024

Leave a Comment