غالب أبو مصلح *
مع انهيار الاتّحاد السوفييتي وتحوُّل دوله من النّظام الاشتراكي إلى النّظام الرأسمالي، بإشرافٍ وتخطيطٍ من قِبل الامبرياليَّة الأميركية، أُفقِرت هذه الدول وتم اجتثاث النظام الاشتراكي على الصُّعُد الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، في ظل زوال القطب العالمي الكابح (إلى حدٍّ ما) للأطماع الامبرياليَّة، فدخل العالم نظام القطب الرأسمالي الواحد وسادت طروحاته النَّظريَّة الجديدة، وتصاعدت ممارساته العدائيَّة، حتى تجاه الدول الرأسماليَّة التَّابعة له، مثل دول جنوب شرق آسيا، أو “النُّمور الآسيويَّة”.
برزت مقولات “الاستثنائيَّة الأميركية” وحق أميركا في شن حروبٍ استباقيَّةٍ ووقائيَّة تجاه الدُّول الَّتي يمكن أن تشكّل تهديداً أو تحدّياً لسياسة الهيمنة الأميركية. وضعت هذه المقولات الولايات المتَّحدة فوق القوانين والأعراف الدَّوليَّة، وخارج إطار المساءلة القانونيَّة والأخلاقيَّة، وصعَّدت من عدوانيتها واستغلالها لدول العالم وشعوبه. لم تعد واشنطن بحاجة إلى التَّجسُّس على الشَّركات الكبرى، بل عيَّنت موظفين في هذه الشَّركات، تدفع الشَّركات أُجورهم ليقدّموا كل المعلومات عن ممارسات وسياسات تلك الشَّركات. وألقت القبض على بعض مدراء الشركات الكبرى المنافسة لشركاتها، لإجبار الشَّركات المستهدفة على بيع أجزاءٍ منها إلى شركاتٍ أميركية، مثلما فعلت مع شركة “ألستوم” الفرنسيَّة وشركة الألومنيوم الروسيَّة العملاقة، كما تحاول تنفيذ هذه السّياسة أخيراً ضد شركة “هواوي” الصّينيَّة.
تراكم الديون
لم يعد العالم قريةً تتساوى فيها المعارف والأجور ويتنافس فيها الجميع على قدم المساواة. بعد “صناعة” انهيار الاتحاد السوفييتي تدنَّى دخل العالِم الرُّوسي الذي أصبح يعمل لصالح شركاتٍ أميركية إلى حوالي 50 دولاراً أميركياً في الشَّهر، وذلك مقابل أجرٍ ربما يصل إلى أكثر من 70 ألف دولار لنظيره في أميركا، وأصبح أجر الموظَّف الأميركي في دول الخليج العربي يساوي ضعف نظيره العربي ذي الكفاءة الموازية، وأُخرِجت الشَّركات المنافسة للإنتاج الأميركي السّلعي والخدماتي من السُّوق العالميَّة “الحرَّة” بدواعي “الأمن القومي” ومكافحة “التَّجسٌّس” و”السَّرقة” العلميَّة والفكريَّة، وبدواعي ملكيَّة بعض الشَّركات من طرف الحزب الشُّيوعي الصّيني، وكأن الحزب الشٌّيوعي الصّيني لم يبلغ العاشرة من سنيه بعد، ولم تتعاون الولايات المتَّحدة معه منذ سبعينيات القرن الماضي.
مع عودة الولايات المتَّحدة عن سياسات العولمة، بعد أن فقدت قدراتها التَّنافسيَّة ووقعت في فخ المديونيَّة التي طالما دفعت هي نفسها الدُّول النَّاشئة خاصَّةً إليه، أسقطت واشنطن مشاريع “الشَّراكة الأطلسيَّة” التي لم تعد تعمل لصالحها، وأزَّمت علاقاتها مع الصّين الشعبيَّة وأخذت تعمل لمنع أو كبح تقدٌّمها، وراحت “تبشّر” بهذا “السُّقوط الصيني الوشيك”، بهدف ردع الدّول عن تعميق علاقاتها مع الصّين.
إن تراكم الدُّيون لدى مراكز النّظام الرَّأسمالي العالمي، وخاصَّة لدى الولايات المتَّحدة وبريطانيا وفرنسا، يعني أن هذه الدُّول تعيش بمستوياتٍ تفوق طاقتها الانتاجيَّة. لم يعد بالإمكان المحافظة على “طريقة الحياة” الأميركية أو الأوروبيَّة، إذ أن كميَّة النَّهب الذي تمارسه تلك الدُّول للدُّول النَّاشئة لم يعد قادراً على ردم الهوَّة بين إنتاجها وإنفاقها، وإن هلاك قسمٍ من الدُّيون الخارجيَّة الأميركية سنوياً، بسبب معدَّل التَّضخُّم الأميركي، لم يعد كافياً لمنع النُّمو السَّريع للقيمة الحقيقيَّة للمديونيَّة الخارجيَّة. إن انهيار سعر الصَّرف الحقيقي للدولار هو حتى اليوم ما زال أقل من نموّ الدَّين الفيدرالي الأميركي ونموّ كلفته كنسبةٍ من النَّاتج العام.
العقوبات والمخدرات.. والدولار!
تخوض الولايات المتَّحدة حربها على دول العالم، النَّاشئة منها بشكل خاص، على جميع المستويات وفي الوقت ذاته. استعملت سلاح “العقوبات” الاقتصاديَّة الذي أخذ يفقد فعاليَّته لكثرة استعماله، ولتردّي قدرة أميركا على الإمساك بتلابيب الاقتصاد العالمي وشبكات الامداد فيه، بل أخذت مفاعيل هذا السّلاح ترتد على أميركا ذاتها. إستعملت الولايات المتحدة سلاح “الملكيَّة الفكريَّة” لابتزاز دول العالم، في الوقت الذي تسرق فيه “الحقوق الفكريَّة” لدول العالم “وأدمغة” العالم النَّامي، والذي دفع هذا العالم ثروات طائلة لإنتاجها؛ فالتَّعليم هو استثمارٌ في العامل البشري في الإنتاج، وسرقة ملايين العلماء من أنحاء العالم للعمل في خدمة الاقتصاد الأميركي يعني سرقة الدُّول النَّاشئة.
إستعملت الولايات المتَّحدة سلاح المخدّرات على نطاقٍ واسع، منذ حروب الأفيون في الصّين، لنهب الدُّول وشلّ قدراتها على الإنتاج والمقاومة، من الصّين وكمبوديا وفيتنام إلى إيران وأفغانستان والعراق ودول أميركا اللاتينيَّة، كما ضدَّ الأفارقة-الأميركيين وأحيائهم في الولايات المتَحدة ذاتها.
إستعملت الولايات المتَّحدة مؤسَّسات النّظام المالي الرَّسميَّة، والتي تسيطر عليها، مع الدولار كعملة رسميَّة عالميَّة منذ اتّفاقات “بريتن وودز”، وشبكة المصارف العالميَّة التي تحميها بكل طاقاتها، لوضع شروط إقراضٍ ظالمٍ ومكلفٍ، بهدف السطو على ثروات دول العالم الثَّالث خاصَّة، واستتباعها ومنع تنميتها.
إستعملت الولايات المتَّحدة قدراتها الإعلاميَّة لتشويه صورة منافسيها من الدُّول ومعارضيها من السّياسيين، وشيطنت بعض الدُّول وقياداتها، كمقدّمةٍ لتدميرها أو محاولة تدميرها، كما فعلت مع كوبا وفنزويلا وإيران والعراق وليبيا والصُّومال والعديد من الدُّول الصغيرة النَّاشئة بشكل خاص. شنَّت الولايات المتَّحدة حملاتٍ إعلاميَّةٍ مضلّلة ضدَّ المؤسَّسات البديلة والموازية للمؤسَّسات الماليَّة والنَّقديَّة والعملات المنافسة لهيمنتها، لمنع كشف التدهور الحاصل لقدراتها الحقيقيَّة، والاقتصاديَّة منها بشكلٍ خاص. لكن تفاقم هذا التَّدهور دفع بمؤسَّسات تقييم القدرات الائتمانيَّة العالميَّة الكبرى أخيراً إلى تخفيض تقييم القدرات الائتمانيَّة المستقبليَّة للولايات المتَّحدة.
ممارسات تدميرية
لم تتردَّد الولايات المتَّحدة يوماً في استعمال أشد أساليب القمع العسكرية وحشيَّةً وقسوةً في تحقيق أطماعها على صعيد العالم، ما كان بإمكانها ذلك. فتاريخها حافلٌ بالجرائم ضدَّ الشُّعوب، مثل إبادة سُكَّان أميركا الأصليين (25 مليوناً) فوق أرضهم ومحو حضارتهم التي كانت ذات يوم مزدهرة ومميَّزة. ضربت اليابان بأول قنبلة نوويَّة في هيروشيما، ممَّا دفع اليابان إلى الاستسلام. لكن استسلام اليابان لم يمنع ضربها بقنبلة نوويَّة أٌخرى في ناكازاكي، ولم يمنع قصف طوكيو بالطَّيران بما يوازي أكثر من قنبلة نوويَّة. هذا التَّعطُّش للدماء، هذا الانتقام من الأعداء، هذا الاستعراض الدَّائم للوحشيَّة الأميركية ربَّما اعتمدت على فلسفة ماكيافيللي بالقول ما معناه أن على الأمير أن يثير الخوف لدى رعِيَّته ليستَتِبَّ له الحكم. أعدم أيزنهاور، الذي قاد جيوش الحلفاء الغربيين في الحرب العالميَّة الثَّانية، أكثر من مليون جندي ألماني هربوا من الجبهة الشَّرقيَّة ليستسلموا على الجبهة الغربيَّة، عبر رميهم في معسكرات اعتقال، نازعاً عنهم صفة الجنود الأسرى، ليضعهم خارج اتّفاقيَّة جنيف لمعاملة الأسرى في الحرب، واصفاً إيَّاهم بـ”جنود مجرَّدين من أسلحتهم”، فمنع عنهم الطَّعام والدَّواء، ومنع الأهالي والصَّليب الأحمر من مساعدتهم، فماتوا جوعاً ومرضاً وبرداً في العراء. استعملت أميركا السَّلاح الكيميائي في فيتنام والسّلاح البيولوجي ضدَّ السُّكَّان الأصليين، دمَّرت العديد من الدُّول العربيَّة، من الصٌّومال إلى العراق. وعد الرَّئيس الأميركي جورج دبليو بوش بإعادة العراق إلى العصر الحجري. دمَّر القاعدة الصّناعيَّة للعراق، وقتل وهجّر العلماء والعمّال المهرة وأعاد الأُميَّة إليه، وأطلق فيه تعاطي المخدَّرات والفساد والتَّوترات الطَّائفيَّة والإثنيَّة والعشائريَّة، وقلَّص ناتجه المحلّي بعد الاحتلال بمَّا يقارب الـ90%، بينما لم يستطع هتلر باجتياحه للاتّحاد السوفييتي أن يقلّص الناتج الإجمالي للأخير بأكثر من 60%.
عدوانية الإمبراطورية تبلغ ذروتها
وضعت الولايات المتَّحدة عند بداية هذا القرن خطَّةً استراتيجيَّةً لاحتلال وتدمير سبع دولٍ عربيَّة وإسلاميَّة، تبدأ في العراق وتنتهي في إيران. تعثَّر اجتياحها في العراق، ولكنَّها استمرَّت في تنفيذ استراتيجيَّتها بوسائل أُخرى. كان الهدف تدمير هذه الدُّول ودفن مبدأ الوحدة العربيَّة، ونجحت في ذلك إلى حدٍّ بعيد. كان هدفها الأساسي تدمير العراق ومنع نهوضه، وعد بوش مناحيم بيغن بأن لا يعود لدى العراق دبَّابةً واحدة غربي بغداد لتهدِّد الكيان الصهيوني، وقرَّر الاحتلال الأميركي “اجتثاث” حزب البعث، والقصد اجتثاث مبدأ أو هدف الوحدة العربيَّة، ونجح الاحتلال في ذلك إلى حدٍّ بعيد، فقد دمَّر ليبيا وسوريا ولبنان والسُّودان والصُّومال، وأقام في المغرب دولةً ثنائيَّة القوميَّة صديقة للكيان الصُّهيوني، ويعمل على الإمعان في تقسيم سوريا وإقامة كيان كردي فيها يكون حليفاً للكيان الصُّهيوني.
ليس صحيحاً أن الولايات المتَّحدة أرادت الانسحاب من “الشَّرق الأوسط”، أو بالأحرى الوطن العربي، فما زال الأخير البقرة الحلوب التي تستمر أميركا في استغلالها بقسوةٍ ووحشيَّة. صحيح أنها أرادت ترحيل قسمٍ كبيرٍ من قدراتها العسكريَّة إلى شرق آسيا، لمجابهة الصّين الشَّعبيَّة وعرقلة تقدمها، ولكنها عملت على الدَّوام على حماية مصالحها بأساليب أُخرى. إعتمدت بشكلٍ خاص على الكيان الصُّهيوني كَوكيلٍ لها أو كعصا غليظة ترفعها فوق رؤوس الحكومات والشُّعوب؛ والكيان، كما يقول نعوم تشومسكي، بمثابة ولايةٍ أميركية ذات امتيازاتٍ خاصَّة، أعطتها الولايات المتَّحدة السّلاح والمال والتَّقانة والحماية السّياسيَّة والقانونيَّة على الصَّعيد الدَّولي، وهي فوق القوانين والأنظمة والاعراف الدَّوليَّة، لها حقوق “الاستثنائيَّة” الأميركية. وعملت واشنطن بنجاحٍ نسبي على “دمج” الكيان الصٌّهيوني مع بعض محيطه العربي، ودفع الدُّول العربيَّة إلى إقامة علاقات سياسيَّة واقتصاديَّة وتجاريَّة معه. بذلك، تستطيع الولايات المتَّحدة أن تسحب معظم أساطيلها لمهام استراتيجيَّة أٌخرى، مع الإبقاء على حماية نهبها للوطن العربي.
من أوكرانيا إلى غزة
لذلك، عندما تجرَّأت المقاومة الفلسطينيَّة على أن تشنَّ حرباً دفاعيَّة على كيان الاحتلال الممعن في ممارساتٍ عنصريَّة اجتثاثيَّة تدميريَّة بحق فلسطين والفلسطينيين، ظهر أن هذا الشَّعب لم يُقعِده الخوف من آلة القتل الأميركية الصُّهيونيَّة، فقرَّرت أميركا أن تستعرض وحشيَّتها وإجرامها و”استثنائيَّتها” في حربٍ على غزَّة خاصَّة وعلى الضّفَّة الغربيَّة، حربٍ لا محرَّمات فيها، لا قوانين وأعراف تحدّ من جرائمها، بأحدث الأسلحة الأميركية، بإمدادٍ لا حدود له بالذَّخائر الذَّكيَّة وغير الذَّكيَّة، المحرَّمة وغير المحرَّمة، وبحمايةٍ من حاملات الطَّائرات والبوارج الأميركية، لردع قوىً محيطة وإقليميَّة عن الدخول في الصّراع ضدَّ هذا العدوان الصَّهيوني، مجنّدةً حلفاءها الأوروبيين للوقوف بجانب كيان الاحتلال، ولتعميم الخوف والرُّعب في المنطقة والعالم من نتائج التَّمرُّد على الإرادة الأميركية.
وعليه، فإن ربط القيادتين الأميركية والأوروبيَّة ما بين حربَي أوكرانيا وغزَّة صائبٌ جداً: كلا الحربين تندرجان في سياق الحرب الأشمل ما بين النّظام الرأسمالي العالمي وشعوب العالم الطَّامحة إلى التَّحرُّر والتَّقدُّم ووضع حدٍّ لنهب خيراتها ونتاجها… الحلقة الاخيرة.
* غالب أبو مصلح: خبير وباحث اقتصادي، لبنان. نشرت على موقع 180 بتاريخ 21/ 12/2023
Leave a Comment