سمير العيطة*
من الواضح أنّ المنطقة العربيّة آتية إلى تحوّلات كبرى غداة “طوفان الأقصى”، وليس بعيداً عن التصوّر أن تؤدّي إلى حربٍ واسعة تشمل الضفّة الغربيّة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وربّما غيرها.
مثل هذه الحرب قائمة أصلاً اليوم بشكلٍ خافتٍ وبطيء ويُمكِن أن تتفجّر بشكلٍ أكبر في إحدى هذه “الساحات” أو في جميعها سويّةً، طالما أنّ الولايات المتحدة عاجزة عن كبح جماح جنون قادة إسرائيل وعن تصوّر “يومٍ تالٍ” أضحت فيه القضيّة الفلسطينيّة أساساً وبعيداً عن مآلات “الفوضى الخلاقة” التي عاثت خراباً منذ غزو العراق. لا شريك دوليّاً كبيراً للولايات المتحدة اليوم من أجل صنع “سلام” لا سيّما وأنّها قد غرقت أصلاً في انتخاباتها الرئاسيّة.
هذه التطوّرات كلّها تستحقّ قراءة جديدة لأوضاع سوريا، ومن قبل السوريين قبل غيرهم. قراءةٌ وكذلك مراجعة تتخطّى آلام ثلاث عشرة سنة من الصراع، وتتفحّص مآلات البلد، أو ما بقي منه، إذا حدثت الحرب الكبرى أو تُرِكت الأمور على غاربها حيث تتفسّخ أكثر شهوراً وسنين.
سوريّا اليوم مقسّمة. ثلاث مناطق تسيطر على كلّ منها سرديّةٌ مختلفة وقوى أمر واقع محليّة وقوّات أجنبيّة. انقسامٌ يترسّخ منذ أن توقّف زخم “الحرب الأهليّة” – ويجب تسميتها هكذا لأنّها بين السوريين أساساً – منذ خمس سنوات. وحيث أنّ شروخاً جديدةً تتعمّق وتتّسع.
“حزب العمّال الكردستاني” يُهيمِن على “شمال شرق سوريا”، كما تسمّيه الأمم المتحدة في وثائقها الإغاثيّة. وقد تمّ مؤخّراً فرض “عقدٍ اجتماعيّ” خاصّ بهذه المنطقة يقوم على أساس أنّ السوريين هناك هم “مكوّنات” و”شعوب” إثنيّة ومذهبيّة يتوافقون على استقلالٍ ذاتيٍّ انطلاقاً من التصوّرات التي وضعها عبد الله أوجلان حول مستقبل البلدان التي يعيش فيها من ينتمون إلى الهويّة الكرديّة. لكنّ القائمين على هذا العقد يعرفون جليّاً أنّ سرديّةً كهذه لا يُمكِن أن تؤسّس لـ”سوريا ديموقراطيّة”، ولا أن يتقبّلُها بنات وأبناء المدن السوريّة، دمشق وحلب وغيرها، ولا حتّى الحسكة والرقّة، إلاّ بقوّة السلاح.
يستقوي هذا “الشمال” و”الشرق” على بقيّة المناطق بموارده الطبيعيّة والزراعيّة، وخاصّةً بالقواعد الأمريكيّة. هذا في حين تتواجد على الأرض التي يؤسّس عليها سرديّته أيضاً القوّات التركيّة والجيشان الروسي والسوري. واللافت للإنتباه أنّ من يدير مسار هذه المنطقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي هو ذاته الذي يُدير دعم عدوان إسرائيل على غزّة. وأنّ “قوّات سوريّا الديموقراطيّة” تتواجه اليوم مع الجيش التركي و”الحشد الشعبي” العراقي في آنٍ معاً.
لا بدّ من الخروج من هذه السرديّة العبثيّة، برغم ألم المظالم التي تعرّض لها بعض الكرد السوريين سابقاً. إذا كان الهدف هو حقّاً وحدة سوريا والسوريين والمواطنة وحتّى إنصاف الكرد على خلفيّة لامركزيّة عقلانيّة.
بالمقابل، تهيمن على “شمال غرب سوريا” سرديّة “الثورة” ضدّ الاستبداد في ظلّ فوضى فصائل مسلّحة، بعضها جهاديّ، وكذلك تبعيّة كاملة للدولة التركية وللمعونات الأوروبيّة والأمريكيّة. هذا في حين تستحضر السرديّة ذكرى الأيّام الأولى للانتفاضة حين كانت سلميّة، ويغيَّب في المقابل واقع أنّها تحوّلت سريعاً إلى صراعٍ طائفيّ وحربٍ أهليّة وبالوكالة بين القوى الإقليميّة والدوليّة.
آلامٌ ومآسي هذا الصراع السوري حاضرة بقوّة في الأذهان، خاصّةً أنّ نصف سكّان هذه المنطقة نازحون داخليّون. إلاّ أنّ تعبير “ثورة” لا يتوافق لا مع مشروع دولة مذهبيّة في سوريا، هنا بحجّة “أغلبيّة” بدل “أقليّة”، ولا يتوافق مع استغلال المقيمين للنازحين اقتصاديّاً ومعيشيّاً. المقيمون في “شمال غرب” والمتواجدون في جنوب تركيا تجاه القابعين في المخيّمات. وفي الأساس، ما فائدة تضحيات “الثورة” إذا انتهت بالتقسيم والتبعيّة والاستغلال؟
إنّ هذه المنطقة تواجه تحدّيين رئيسيين اليوم: أولاً؛ تقلّص المساعدات الخارجيّة نتيجة ملل المانحين. ثانياً؛ التحوّل في موقف تركيا تجاه السلطة في سوريا نتيجة حرب غزّة وتداعياتها المرتقبة.
هنا أيضاً، لا بدّ من الخروج من السرديّة القائمة، لا لنقض الطموح بالحريّة والكرامة، بل لأنّه غدا فاضحاً اليوم، بفضل تضحيات أهل غزّة، أنّ الدول التي ادّعت دعم “الثورات” لا تهتمّ بالحريّات ولا بالكرامة إلاّ خطابيّاً، بل تهتمّ بمصالحها وبهيمنتها وبصراعاتها الدوليّة.
أمّا منطقة “الحكومة السوريّة”، كما في تسمية الأمم المتحدة، فهي التي يعيش سكّانها أسوأ الأوضاع المعيشيّة نتيجة تزامن العقوبات ومنع حتّى تطبيق “التعافي المبكّر” وقلّة المساعدات وتداعي مؤسّسات الدولة والاقتصاد وانفلات الميليشيات. هذه المنطقة تخضع لفصائل موالية لإيران وللجيش الروسي مع إضعافٍ كبير للجيش السوري الذي أنهكه الصراع الداخليّ كما انهكته الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة دون رادع.
لا سرديّة وحيدة في هذه المنطقة. السلطة لديها سرديّتها الخاصّة بأنّها انتصرت، فقط لأنّها بقيت قابِعة. هذا في حين تبقى عاجزة عن المبادرة، لا تجاه السوريين، برغم أهميّة ذلك اليوم، ولا تجاه التقّلبات والتحوّلات المحيطة. وهناك سرديّات متنوّعة لا تكترِث كثيراً بسرديّة السلطة بل تنبُع من الأسى حيال القتل والدمار ومن الفقر والفاقة ومن الخوف. خوفٌ من السلطة ومن القوى الخارجيّة ومن سرديّات المناطق الأخرى والقائمين عليها، كلّهم على السواء، دون أفق مع انشغال في تأمين قوت اليوم.
ومع الاعتذار من “انتفاضة السويداء”، لا أفق اليوم لسرديّة المطالبة بتفاوضٍ سياسيّ على أساس قرار مجلس الأمن 2254، إذ لا توافق أصلاً بين الرعاة الأمميّين لهكذا تفاوض ولا دعمَ شعبيّاً لا للسلطة ولا “للمعارضة”. ولا أفق لتحسّن الوضع المعيشي في حين تعمل مجموعة ضغط (لوبي) سوريّة في واشنطن على فرض المزيد من العقوبات على البلاد وكلّ من يتعامل معها!
سوريّا المقسّمة اليوم هي خاصرة هشّة في الحرب القائمة أو في الحرب الكبرى التي يُمكِن أن تنفجِر. ولا مكان لها في مفاوضات “سلام”، إن أتت، لا لإنهاء تقسيمها ومعاناة أهلها ولا لاستعادة جولانها المحتلّ. القادة الإسرائيليّون يهدّدونها على الهامش فماذا لو قرّروا التمادي أكثر حيالها؟
مراجعة السوريين وقراءتهم الجديدة لمستقبل بلدهم ضرورة اليوم. قراءةٌ تنبع من حرصهم على بلدهم وأهلها. قراءة تتخلّص من السرديّات العبثيّة. وقراءةٌ تنبُع ممّا أتت به تضحيات أهل غزّة إلى المنطقة، أي تخطّي سرديّات الصراع السنّي-الشيعي وطموحات دويلات الطوائف والإثنيّات، بما فيها الصهيونيّة، وكذلك فهم أنّ حريّات الشعوب وحقوق الإنسان لا تهمّ القوى العالميّة بقدر ما تهمّها مصالحها الاستراتيجيّة.
تتطلّب إذاً تلك المراجعة قراءةً سوريّةً جديدةً، والعضّ على الجراح والتطلّع إلى ما هو أهمّ. فسوريا والسوريّون يواجهون تهديداً وجوديّاً كما الفلسطينيين. تهديدٌ أقسى حتّى من ذلك الذي يواجهه اللبنانيّون والعراقيّون. وتتطلّب القراءة مواقف جريئة لا تأبَه سوى بسوريا وأهلها، وببقائها كدولة وكيان. مواقفٌ يحكُم عليها التاريخ والمستقبل وليس هذا وذاك. مواقفٌ.. لا بيانات.
*سمير العيطة ، رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب، نشرت على موقع 180Post بتاريخ 08 /01/2024
Leave a Comment