سياسة صحف وآراء

في وداع رياض الترك… انتصرت الديكتاتوريّات؟

أيمن جزيني*

رحل رياض الترك. رحيله ليس عاديّاً. موته، وأمثاله لا يموتون إلا جسداً… موته نوع من أنواع نعي لقِيَم ومراحل كثيرة وعناوين كبيرة وعريضة. برحيله تنطوي حقبة يسارية كان الأمل معقوداً عليها طوال قرن مضى. هو من صنوف يسارٍ ضروريّ. كان من يسارٍ يقطع مع العنف الثوري ويلاقي ليبرالية عقلانية. وإذ كان على حقّ في القطع مع النيوليبرالية على توحّشها فقد كان يبحث عن حلٍّ للراهن في الحاليّ وليس في التراث. شابَه عن قصد أو بغيره مهدي عامل، وكذلك المفكّر الماركسي المصري محمود أمين العالم.

برحيله أيضاً يمكن نعي نجمة مضيئة في تاريخ سوريا، ستبقى تضيء ولو من خلف قبر وحُجُب. برحيله أيضاً وأيضاً يمكن نعي اليسار في سوريا، والنضال السلمي، وكلّ أمل في ربيع دمشقيّ أو سوري أو عربي أو عالمي.

موته خلاص من سجون كثيرة

هو “مانديلا سوريا”، و”ابن العمّ”. وكذلك رمز من رموز النضال ضدّ الاستعمارَين الخارجي والداخلي. على الدوام كان ضدّ ظلم الأغراب والدول الكبرى، وضدّ ظلم ذوي القربى أوّلاً وأخيراً. موته يتزامن ويكثّف في توقيته مرحلة انتصار الديكتاتوريات في العالم، لِما كان يمثّل من قيَم ومثل ومبادئ وأفكار.

موته يمكن تأويله أيضاً على أنّه موت لمرحلة طويلة فيها نبت وأزهر الأمل في أن نحوّل بلادنا العربية إلى دول ديمقراطية تحترم الإنسان وحقوقه وحرّياته في القول والفعل، وفي إمكانية العيش بأمن وأمان وسلام. موته هو موت للأمل في مجتمع لا تسيطر عليه القوى الظلامية التي تخرج من كتب التاريخ ومن قلب كلّ أمل، لتقضي عليه.

موته يطوي حقبةً “يساريةً” وأملاً “يساريّاً” بمجتمعات تتقبّل كلّ اختلاف وكلّ رأي وتحمي صاحبه وإن خرج من القطيع. هذا الموت هو إعلان موت لمدن عريقة وضاربة في الحضارة والفكر والثورة والتغيير، من دمشق إلى آخر عاصمة في العالم، مروراً ببيروت.

هذا من جهة. من جهة أخرى موته خلاص له من سجون كثيرة. خلاص من سجن زجّه فيه نظام الأسدين الأب والابن. وخلاص من سجن عربي أكبر لطالما تناولته قامات كبيرة في المجالات كلّها، من المعلّم كمال جنبلاط إلى الشاعر مظفّر النوّاب. وقد قال الترك عن هذا السجن الكبير يوم خرج إليه من سجنه الصغير: “خرجت من السجن الصغير إلى السجن الكبير، وعلينا جميعاً أن نسعى إلى فتح أبوابه. أنا لن أتخلّى عن حقّي في ممارسة السياسة أيّاً تكن الظروف. وأهلاً بالسجن إذا كان ثمناً للتمسّك بالرأي وحرّية التصريح”.

قضبان خلفها قضبان خلفها قضبان

في حمص عام 1930 وُلد. وفي المنفى الفرنسي توفّي أمس عن 93 عاماً، تاركاً إيّانا في سجون كثيرة أفنى عمره وهو يسعى إلى تكسير قضبانها. سعى إلى تحطيم قضبان المجتمع وقضبان الحزب الشيوعي السوري، وقضبان “الجبهة الوطنية التقدّمية” في سوريا، وقضبان النظام، وقضبان كلّ ديكتاتور. وأوّلاً وقبل كلّ هذه القضبان، قضبان المجتمع العربي الذي يرزح تحت نير أفكار تحول بين أفراده وبين حياة حرّة كريمة.
درس الترك الحقوق ونال إجازة فيها. تخرّج من الجامعة مناضلاً شرساً ضدّ القمع والديكتاتوريات ونظام الأسد. بدأ حياته في المعتقل عام 1952. أمضى غالبية هذه السنين في السجون، إذ كان ينتقل من سجن إلى سجن، وفي مختلف الحقب والعهود في سوريا. حصل هذا في عهد الانقلابات المتتالية في خمسينيات القرن الماضي، ثمّ عهد البعث وجبهته التقدّمية وسجنها الانفرادي طوال 18 عاماً الذي هو الأقسى والأشدّ وطأةً، فعهد الوريث.

حين توفّي حافظ الأسد، نعاه عبر قناة “الجزيرة” ولم يكن قد أكمل عامين بعد خارج السجن بقوله: “مات الديكتاتور”. عبارة كانت كفيلةً بإرجاعه إلى سجن الأسد، وإن تغيّر السجّان. وإذا كان الترك قد نعى الأسد بعبارته الشهيرة “مات الديكتاتور”، فلا يليق به لقب ونعي في يومه هذا غير: “مات المعارض”.

مُعارض على طول الخطّ

كان الترك معارضاً في كلّ مراحل ومحطّات حياته، حتى يخيّل للمرء أنّه وُلد ليعارض.

عارض جمال عبد الناصر والوحدة العربية السورية. ثمّ عارض انقلاب الأسد الأب، ثمّ صعود الابن بشّار. كما عارض الأمين العامّ للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش، وهو الحزب الذي انتسب إليه مبكراً مطلع خمسينيات القرن الماضي، وذلك بعد قرار الحزب الشيوعي السوري في عام 1972 بالانضمام إلى “الجبهة الوطنية التقدّمية”، وهي ائتلاف مؤلّف من منظّمات متحالفة مع “حزب البعث العربي الاشتراكي” الحاكم.

كما عارضه في قضايا كثيرة بدءاً من الأمور التنظيمية الداخلية ومروراً بالعلاقة مع الاتحاد السوفيتي والموقف من الوحدة العربية، وصولاً إلى الموقف من القضية الفلسطينية. ثمّ انشقّ بعد عام عن الحزب الشيوعي السوري ليشكّل “الحزب الشيوعي السوري المنشقّ” (المكتب السياسي)، الذي صار اسمه لاحقاً “حزب الشعب الديمقراطي السوري”.

عارض في أواخر أيّامه ونضالاته “عسكرة” الثورة السورية وتطييفها. وعبارته الشهيرة خير دليل على ذلك: “ثورتنا سلمية شعبية ترفض الطائفية، والشعب السوري واحد. لا تنازل ولا تفاوض بشأن الهدف المتمثّل في قلب النظام”.

في أوائل عام 1965، بُعيد عودته إلى سوريا التي غادرها إلى موسكو عند انقلاب البعث وتسلّمه السلطة عام 1963، تزوّج من رفيقته في الحزب الشيوعي، الدكتورة أسماء الفيصل.

“تذكّري رياض الترك”

كان للإمبراطور الروماني مرافق يلازمه كظلّه، عمله الوحيد ومهمّته الوحيدة هي تنبيهه عند كلّ مفترق أو حدث أو نصر أو نشوة، بعبارة أثيرة هي: “تذكّر الموت”.

من الآن وصاعداً، حريّ بالمعارضة السورية بأطيافها كافّةً، أن يذكّرها مذكِّرٌ عند كلّ حدث أو محطة أو موقف، بقوله لها: “تذكّري رياض الترك”.

الراحل الباقي بوصلة للثوّار إذا اشتدّ عليهم بطش النظام. وبوصلة لهم إذا اندسّ بينهم “سلاح” أو “عنف” أو “عسكرة”. وبوصلة لهم إذا انزلق البعض إلى زواريب الطائفية وأزقّتها. وأوّلاً وأخيراً بوصلة لهم كلّما أوشك وهج على الانطفاء، أو جلس جليس ليفاوض نظاماً ما هادنه رياض الترك، لا في السجن ولا خارجه، ولم يهادنه حيّاً، وهيهات يفعل وفكره خالد لا يموت.

*نشرت على موقع أساس يوم الأربعاء 03 كانون الثاني 2024

Leave a Comment