زهير هواري
بيروت 18 كانون الأول 2023 ـ بيروت الحرية
كل الاوصاف التي أطلقت على ممارسات الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة من جانب الإعلاميين وممثلي الأمم المتحدة والخبراء وغيرهم لا تكفي للتعبير عن واقع الحال المقيم في الأرض المحتلة، أو تلك التي كانت تحت نار الحصار وهي الآن تتعرض للاجتياح. وعلى الرغم من تواتر عبارات من نوع :” جرائم حرب ” و” جرائم ضد الإنسانية ” و ” حرب إبادة ” و.. فالوقائع أقسى وأشد هولاً مما ورد وحملته وكالات الأنباء والتصريحات التي ترددت. لكن ما يجب التذكير به أن ما نتناوله أبعد من المعارك التي دارت في أعقاب هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة، وما أسفر عنه في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني من مقتلة، بل هو سابق على هذا التطور الذي حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر، الذي كل ما فعله أنه ضاعف من عدوانية وعنف الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني إلى حدود غير مسبوقة، بما فاق فيها تلك الممارسات التي شهدتها الفاشية في أيطاليا واسبانيا والنازية في ألمانيا.
لنبدأ مما قبل السابع من شهر تشرين الأول / أكتوبر 2023 في قطاع غزة والضفة الغربية. الكل يعرف أن كل تفاصيل الحياة في القطاع كانت مرهونة بقرارات الاحتلال الإسرائيلي. أن يسافر الانسان ويأكل ويشرب وينعم بالكهرباء والمحروقات والطاقة لمركبته ويستشفي ويحصل على العلاج ويذهب إلى حقله ومحترفه ودكانه ويركب زورقه القديم ويبحر بحثاً عن الأسماك في بحر مدينته، ويقود عربته التي يجرها حصان أو حمار متهالك ويحاول العمل لتأمين قوة أسرته وما شابه، كل هذا وغيره مرهون بإرادة الاحتلال دون سواه. وقطاع غزة لا تحده إسرائيل فقط من الشرق والشمال، بل ومصر أيضاً من الجنوب، مع ذلك فمن يتحكم بفتح المعابر وإغلاقها، والسماح أو منع دخول البضائع والحاجات الأساسية هو الاحتلال الإسرائيلي دون سواه. في غضون السنوات الماضية كل ما أمكن انتزاعه من “حقوق” بعد تحرره في العام 2005 جرى الانقضاض عليه. الإدارة الفلسطينية فقدت دورها تقريباً تحت سلطة حماس. المطار أقفل وكذلك المرفأ وحضور الشرطة الفلسطينية التي كانت تتمركز على المعابر أبعدت عن دورها وقس على ذلك. لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فالحروب التي شنتها إسرائيل خلال الأعوام المنصرمة زادت الطين بلة. فالقصف الجوي الذي استهدف أحياء المدينة وخلّف وراءه تلالاً من الأنقاض، ما زالت اكوامه قائمة وسط الشوارع. هذه الحروب التي تكررت ولكل منها أسم وبصمات قاتلة، تركت وراءها قوافل من الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمعوقين، وترافقت مع تعذر إعادة إعمار ما جرى تدميره. أنقاض على أنقاض، حتى بات القطاع بمثابة قطعة أرض مهملة خارج نطاق المدن، تحوي كل معالم ما يتبقى من ركام بفعل عمليات الهدم والتجديد والتحوير المدينية. وعليه، يبدو القطاع وكأنه بات منطقة خارج الكوكب. كان على كل غزاوي وغزاوية أن يخوض صراعاً يومياً من أجل البقاء على قيد الحياة، كي يتمكن من الحصول على أبسط حقوقه كآدمي في هذا العالم. غزة اذن من وفي الكوكب وخارجه في الوقت نفسه. وعندما تضرب الأمثال بمناطق العالم الثالث التي تعاني من كل معالم الغبن والظلم والإجحاف والحرمان يحضر القطاع في المقدمة على صعد البيئة والتكدس السكاني والسكن والتعليم والأجور والمساواة والصحة وفرص العمل و… إمكانيات العيش. مثله مثل الصومال وبنغلادش وما شابه من دول ومجتمعات غارقة في التخلف. مع فارق جوهري هو وجود احتلال يجثم على صدره ويمنع عنه حق التنفس أو الحركة. وكان على الغزاوي أن يبتكر الوسائل التي تمكنه من إجتراح معجزة البقاء، بينما جنود جيش الاحتلال على أبراج الدبابات ومواقع الحراسة ينظرون باستهزاء من وراء تحصيناتهم إلى “الأغيار”، أو هؤلاء اليائسين الذين قرر الرب أن يكونوا في خدمة السيد، أو شعب الله المختار الذي يمتلك حقوق السادة على العبيد، المستعمِر على المستعمَر، الإنسان الأبيض على الملون، العرق المتفوق على العرق الأدنى. حقوق تبيح لأصحابها قتل هذا “الحيوان البشري” كما تم توصيفه اسرائيلياً. وعلى هذا الكائن المسخ، الذي ليس هو حيوان وليس إنسان، أن يرضى بمصيره ويقبل واقعه بكل طيبة خاطر، فهذه هي المشيئة الربانية. أما في حال محاولة تغييره فحمم السماء ترسلها آلهة التوراة صواعق على رأسه.
اذا ما انتقلنا إلى الضفة الغربية نرى مشهداً مقارباً. معظم أجزائها مستهدفة بالتهويد، وقد غرست بالمستوطنات الملعونة. مستوطنات بدأت عشوائية ثم ما لبثت أن أصبحت “شرعية ومشروعة”. مستوطنات أو مستعمرات أقيمت على أملاك القرى والمدن العمومية أو على أراضي الافراد. المستعمرون الذين أقاموا عليها اعتبروا أنفسهم يرجعون إلى أرض الرب التي منحهم إياها دون الآخرين. وعدهم بها منذ حوالي ثلاثة الآف سنة وهي لهم، وهم إن ابتعدوا عنها إلا أنهم يعودون إليها سادة كما جاء في النص المقدس. ويتم الآن تزويدهم بالبنادق الرشاشة لتوسيع مداهم الحيوي ودائرة القتل، ودفع أصحاب الأرض للهجرة والرحيل. لا بأس أن تقطع أشجار الزيتون وتصادر قطعان الغنم وتمنع القرى والبلدات والمدن من الحصول على حقها بالماء والإعمار لأبنائها الشباب بيوتاً في أملاك آبائهم وأجدادهم، وكذلك إمكان التواصل مع أقرانها. حواجز، حواجز على مد عينك والنظر، ثم يأتي جدار الفصل ليضيف إلى المعازل معازل جديدة. وأنت في متاهة محروسة بالجنود و”الممستعمرين” المدججين بالسلاح. لا تستطيع أن تصل إلى الطبيب والمعمل والمدرسة والجامعة والمحترف. وهنا لا نتحدث عن الذهاب إلى زيارة خالتك أو عمتك أو لقاء فتاة أحلامك وعيادة مريض وغيرها من بديهيات الحياة التي يمارسها كل الناس في بقاع الارض. عندما تصل إلى الحاجز الذي يقطع عليك الطريق نحو مقصدك يجري فحص نواياك عن بُعد، وماذا تحمل في حقيبتك المدرسية أو ضمن زوادة طعامك، إذ قد يكون معك سكين إن لم يكن ضمن أغراضك، ففي رأسك. عندها يصدر الحكم عليك بالاعدام. يجري اطلاق النار عليك دون أدنى ضرورة لسؤالك وانتظار جوابك. فالجندي قدر وقرر وأصدر الحكم ونفذه في اللحظة ذاتها. المئات من الاولاد صبياناً وبناتاً لم يصلوا إلى مدارسهم الإعدادية والثانوية بعد أن جرى قتلهم قبل الوصول.
ماذا بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر؟
كل هذا جرى قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول. ولندخل في التفاصيل. غزة وأهلها يعيشون كأنهم في علبة سردين أو في أكبر سجن مفتوح على وجه الارض. أكثر مناطق الكرة الأرضية اكتظاظاً وحاجة وفقراً ومأساوية. 75% منهم لاجئون من بلادهم وفي بلادهم. هم لم يخلقوا لاجئين أو بؤساء بل صاروا بفعلة فاعل يتمترس وراء جدار دفاعي تكلف بناؤه أكثر من مليار وربع المليار دولار. كل التقنيات التي تضمن صموده وقدرة أصحابه على الانتقال من الدفاع إلى الهجوم نفذت بدقة وبتقنية عالية. لكن بعد ما تبين أنه أعجز عن حماية المقيمين خلفه من مدنيين وعسكريين، ثار الغضب الرباني على غزة وأهلها وبيوتها ومزارعها ومخيماتها وقراها. ما إن ألتقط المحاربون القادمون من أسفار التوراة أنفاسهم بعد حضور النجدة الأميركية المستعجلة، حتى ألهبوا السماء والارض وما تحتهما وما بينهما. ليس هناك من ضرورة لاستهداف المحاربين الذين قالت أجهزة الاعلام الإسرائيلية والمتأسرلة أنهم في الانفاق تحت الأرض. أنفاق تضاهي طولا أنفاق مدينة لندن التي أنقذت المدينة خلال الغارات النازية في الحرب الثانية. وهنا حفرت الانفاق على مدى سنوات طويلة. الآن يجري العمل على إغراقها بمياه البحر ومعها المقاتلين ومن بقي حيا من أبناء المدينة.
في كل ساعة كانت الغارات وقذائف المدافع تدك المباني والطرقات على رؤوس أصحابها والعابرين وسطها. وما كان بمثابة عمران وبيوت ومبان ومستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس ودوائر حكومية وطرقات وبنية تحتية وما شابه، بات مجرد أنقاض لا تجد من يزيل بعضها عن الجثث الآدمية، فالايدي أضعف من أن تستطيع القيام بمثل هذه المهمة، والآليات لا وقود لإدارة محركاتها، ثم إلى أين يمكن أن تنقل ملايين أطنان الركام بمنوعاتها. جثث صغار ونساء وكبار في السن لا تجد من يرفع عنها أثقال الأسمنت والحديد المتلوي ضمن الباطون المسلح. بالأمس كانت هذه مدن ومخيمات ومستشفيات ومحلات وأبراج ومشاغل ومدارس وجامعات وأسواق وكل ما يحتاجه البشر في حياتهم اليومية، والآن صارت على ما هي عليه من هياكل فقدت معها كل معالم الحياة السابقة، كما كان سكانها ينتمون إلى أجيال متعددة. رجال ونساء وأبناء وبنات وأطفال، والآن لم يعودوا سوى هياكل عظمية تتعفن بفعل رطوبة الجثث وتخثر الدماء.
Leave a Comment