عمر قدور*
من المؤكد، حسبما يقول الكشفُ عن عدد من الوثائق الإسرائيلية، أن خطة هجوم حماس كانت قد تسرّبت إلى المخابرات العسكرية الإسرائيلية قبل أكثر من عام. وتنقل صحيفة نيويورك تايمز استناداً إلى تلك الأوساط أن وثيقةً لحماس من أربعين صفحة، تتحدث بالتفصيل عن هجوم شبيه لما حدث، سُرِّبت وجرى تداولها ضمن المخابرات والقيادات الإسرائيليتين باسم “جدار أريحا”. وقد صار متداولاً أن امرأة في جهاز الاستخبارات حذّرت بالعديد من الرسائل الالكترونية من أن سيناريو الهجوم جدّي، لكن تغلّب الرأيُ القائل أنه “سيناريو خيالي تماماً”، ثم كما هو معلوم حدث ما هو خيالي.
وكان ما يشبه التوصيف الأخير قد أخذ طريقه إلى اللغة العربية، معظم الأحيان من بوابة امتداح نجاح عملية طوفان الأقصى؛ على صعيد التنفيذ وقبله على صعيد التضليل الاستخباراتي والإتيان بسيناريو يبدو غير معقول. ثم، غالباً، توقف الأمر عند المديح الذي لم يرَ معظم أصحابه ضرورة لمجاراة ذلك الخيالي الذي صار واقعاً، أما الذين لهم موقف نقدي من العملية برمتها فكأنهم رأوا في موقفهم مبرراً لعدم تأمل أوجه مختلفة ذلك الخيالي، وإن كان مرفوضاً من قبَلهم.
كُتِب الكثير عن غزة، وسيُكتَب الكثير طالما بقي الحدث ساخناً. بعد أيام قليلة، كانت كافية لاستيعاب الصدمة الأولى، استهل جزء من الإعلام الإسرائيلي عملية كشف واكتشاف شجّعت قسماً من الإعلام الغربي على ذلك، بعدما طغى عليه في الأيام الأولى الطابع التعبوي المناصر لإسرائيل فقط وفقط. ومن المرجَّح أن الأخبار ستتوالى، وستتوالى المراجعات النقدية الإسرائيلية اللائقة “ولو نسبياً” بذلك “الخيالي” الذي حدث، في حين ستبقى غالبةً في الكتابات العربية تلك التي يكتبها الذكاء الاصطناعي كما هو الحال خلال قرابة شهرين انقضيا.
ما نعنيه بالمقالات التي كتبها عن غزة الذكاءُ الاصطناعي تلك المقالات الأمينة لأصحابها بلا زيادة أو نقصان على الإطلاق، بصرف النظر عن موقع أصحابها من الحدث وآرائهم المتباينة. فالذكاء الاصطناعي كما هو معلوم صار قادراً على صياغة نص بناء على قاعدة بيانات سابقة معطاة له، والتطور الذي أُدخِل عليه جعله قادراً على صياغة النص المطلوب منه بشكل جيد يستفيد من أسلوبية النصوص المعطاة له.
لدينا معيار واضح، يسهل تطبيقه، لمعرفة المقالات التي كتبها الذكاء الاصطناعي. إذ بوسعنا على الأقل تخيّل كتابات أي كاتب كقاعدة بيانات للذكاء الاصطناعي، ثم الطلب منه أن يكتب لنا مقالاً عن الحرب الحالية بناء عليها. معيار الذكاء الاصطناعي هنا، والذي به نفرّقه عن الذكاء الطبيعي، هو أن الذكاء الاصطناعي سيكتب لنا مقالاً لا جديد فيه على الإطلاق، رغم أنه مقال متقن بحيث يصعب تمييزه عن مقالات الكاتب الذي أدخلنا كتاباته كقاعدة بيانات.
يستطيع أيّ منا تخيّل نفسه في موقع ذلك الكاتب المفترض، ثم تخيّل نفسه في موقع الذكاء الاصطناعي الذي يأخذ في الحسبان مواقفه السابقة وطريقة صياغتها ليُنتِج نصاً مخلصاً لقناعات صاحبه، ولا عيب فيه سوى الإخلاص الشديد الذي يدل على عدم وجود أي جديد. في إبداء الرأي من الحرب الحالية حدث شيء مشابه، إذ قرأنا وسمعنا بوفرة آراء يُخلِص فيها كتّاب وناشطون لأنفسهم على نحو مذهل، وكأنهم حقاً ذلك الذكاء الاصطناعي.
وليس المقصود بما سبق ذمّ الإخلاص لتوجهات أو مبادئ عامة؛ المقصود هو الإخلاص لها كما هي تماماً، فلا تتطور إزاء حدث استثنائي. ومعيار الاستثنائي هنا عام لا ذاتي أو شخصي، ويستطيع الذين لا يرون في الحدث الحالي استثناء التنعّمَ بكونهم خارج هذا كله. نفترض، على سبيل المثال أن قلة الإخلاص “التي لا يعرفها الذكاء الاصطناعي” هي في أن يطوّر مناصرو الحق الفلسطيني أدواتهم فلا يكررون الكلام نفسه الذي كانوا يرددونه قبل السابع من أكتوبر، وأن يفعل الأمر ذاته آخرون لهم موقف نقدي، بل موقف نقدي صارم من حماس أو السلطة الفلسطينية. وتطوير المواقف لا يفترض الانتقال من ضفة لأخرى، على صعوبته أو سهولته، وإنما المقصود به أن تكتسب القناعات أفقاً أرحب مما سبق، وأن لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التكهن بها تماماً.
على مستوى، ربما بدا مغايراً للوهلة الأولى، قدّم تعاطي المسؤولين الإسرائيليين مع وثيقة حماس المسرَّبة نموذجاً عن الذكاء الاصطناعي، فالذين انتصر رأيهم القائل أنه سيناريو خيالي فكّروا أيضاً بطريقة الذكاء الاصطناعي؛ وببيروقراطية قاعدة البيانات المسبقة. هذا جانب مما لا يريدون الاعتراف به، ورميهم المشكلة على حماس، والقول أن اجتثاثها هو الحل نابعٌ من طريقة التفكير ذاتها، الطريقة التي يتجنّب أصحابها إعادة النظر بقاعدة البيانات كلها، ومن ثم المخاطرة بالوصول إلى استنتاجات لا تريد النخبة الإسرائيلية الحاكمة التوصلَ إليها. والحق أن تفكير النخبة الإسرائيلية الحاكمة، تحدياً فيما يخص التعاطي مع الاستحقاق الفلسطيني، لا يختلف عن نمط تفكير سائد لدينا، وهو النمط الذي يركن إلى ما يألفه ويعتاد عليه، رغم مواجهته واقعاً مستجداً.
مشكلة هذه العقلية أنها لا تريد فهم دورة العنف الحالية بوصفها تعبيراً حاداً عن وضع استنفذ إمكانية استمراره، وأنّ طاقة العنف كانت كامنة والعنف الحالي ونوعيته والشعارات المرافقة له ليسوا أبناء غضب عابر، إذا كان لنا أن نصف أفعالاً جماعية منظّمة بالغضب. يستحق الثمن الباهظ للحرب “فيما يستحق” التعرّفَ على الواقع من قبل الذين يتحدثون فيها، ويستحق تالياً التفكير مع أصحاب الشأن، لا التفكير بدلاً عنهم أو الاستعلاء عليهم، ولعلنا لا نجانب الصواب في القول إن الذين يتمسكون بمسبقاتهم الفكرية يضمرون على الصعيد الأخلاقي احتقاراً للضحايا، بينما يضمرون احتقاراً معرفياً للواقع.
يستحق موضوع الذكاء الاصطناعي أن نأخذه معياراً لا في الموضوع الفلسطيني فحسب، وإنما لدى التفكير في العديد من مآزق بلداننا، خاصة تلك الواقعة تحت شبح حروبها الداخلية. هو تمرين يجدر بنا تعلّمه من أجل هذه الحرب ومن أجل مناسبات مقبلة، تمرين يخيفنا بموجبه أن نكون على العتبة ذاتها مع الذكاء الاصطناعي فيستطيع التفكير مثلنا بسبب تكاسلنا. ربما، على صعيد متصل، تكون شعوب المنطقة هي الأكثر تعرّضاً للتوبيخ لأنها تكرر أخطاءها، التوبيخ الذي يأتي بمعظمه ممن يرون أنفسهم معصومين عن التغيير!
* نشر في المدن الالكترونية يوم السبت 2023/12/02
Leave a Comment