زكي طه
بيروت 16 تشرين الاول 2023 ـ بيروت الحرية
لا تُقرأ دلالات عملية “طوفان الاقصى” التي نفذتها حركة حماس قبل أيام ضد الكيان الصهيوني شمال قطاع غزة. بمعزل عن سياق الصراع الفلسطيني الاسرائيلي المحتدم على ارض فلسطين، في ظل انسداد أفق التسوية السياسية المعطلة منذ أن تبوأ اليمين الصهيوني السلطة في الدولة العبرية. وتعطيل مسارات التفاوض مع السلطة الفلسطينية ومحاصرتها سياسياً ومالياً، والدفع بها نحو المأزق الصعب في مواجهة السياسة الاسرائيلية التي تهدف إلى جعل خيار حل الدولتين، شعاراً غير قابل للنفاذ على أرض الواقع، من خلال مصادرة الاراضي وإغراق الضفة الغربية والقدس بالمستوطنات، وعبر تصعيد الممارسات العدوانية القمعية سواء من قبل جيش الاحتلال أو المستوطنين الذين تم تسليحهم.
لا شك في أن التحديات التي انتصبت في وجه القضية الفلسطينية، وعدم توافق القوى السياسية المشاركة في السلطة الوطنية على برنامج مواجهة موحد، جعل تعدد الخيارات السياسية والنضالية لديها سبباً لتسعير الخلافات التي أدت في نهاية المطاف إلى انقلاب حركة حماس على السلطة، ومنازعة قيادة منظمة التحرير وحركة فتح السيطرة على مؤسساتها واجهزتها، وصولاً إلى الانفراد بإدارة شؤون قطاع غزة، على كل المستويات السياسية والادارية والامنية. وقد تسبب ذلك بالكثير من المضاعفات السلبية على صعيد القضية الفلسطينية، ابرزها اضعاف السلطة الوطنية، وتكريس حالة الانقسام السياسي، وتعطيل جميع محاولات استعادة الوحدة، بتشجيع ودعم من بعض الدول العربية الخليجية، وبمشاركة كل من ايران وتركيا اللتان تسعيان لتعزيز نفوذهما في المنطقة.
صحيح أن اسرائيل كانت ولا تزال المستفيد الاول من استمرار حالة الانقسام، التي استغلتها لتصعيد المواجهات التدميرية مع قطاع غزة ومخيماته، وفي سبيل تنفيذ المزيد من مخططاتها الاستيطانية وحمايتها بقوة ممارساتها القمعية واعتداءات المستوطنين ضد الشعب الفلسطيني الذي لا تعترف بوجوده اصلاً. وعليه وعلى امتداد سنوات طويلة تحولت الضفة الغربية ومدينة القدس ميداناً مفتوحا للمواجهات الشعبية المتكررة التي شاركت فيها جميع اطياف الشعب الفلسطيني، ومسرحا للعمليات الفدائية التي شاركت في تنفيذها جميع الفصائل الفلسطينية، رداً على اقتحام المدن والمخيمات من قبل جيش العدو.
وعليه، فإن عملية “طوفان الاقصى” نفذت خارج سياق المواجهات الروتينية وعمليات القصف المتبادل والمتكرر مع العدو الاسرائيلي. وإذا كانت قيادات الكيان الاسرائيلي السياسية والعسكرية كافة، قد اسقط بيدها واصيبت جميعها بالذهول والعجز عن استيعاب الحدث، وعن قراءة معطياته وحصر نتائجه الميدانية على الصعيدين العسكري والأمني، كما بالنسبة للخسائر البشرية العسكرية والمدنية، بما فيه تحديد حجم اختراق الجبهة والسيطرة على العديد من المواقع العسكرية والمستوطنات واتساع وعمق الاختراق الميداني والمواجهة القتالية المباشرة بين الطرفين.
إلا أن وقع الصدمة في اسرائيل لم يكن أقل منه لدى اركان القيادة الاميركية وسائر قادة الدول الاوروبية المعنية بأمن دولة اسرائيل ووجودها ودورها. خاصة عندما تكشف لهم حجم العملية والخسائر الناجمة عنها، التي بلغت حداً طال فكرة وجود الكيان الإسرائيلي نفسه. ما دفعهم للمسارعة إلى نجدته، عبر استعادة دولهم لأدوارها الاصلية في عملية تأسيسه منذ مطلع القرن الماضي، وفي توفير مقومات نشأته وتأمين جميع الامكانات السياسية والمادية التي ساهمت في تمكينه من خوض الحروب والصراعات لتكريس وجوده كثابت رئيسي بين دول وكيانات المنطقة.
لم يكم مفاجئاً أو مستغرباً أن يشهد العالم هذا التنافس غير المسبوق على المشاركة في اطلاق أوسع حملة من الادانات السياسية المسعورة التي تجاوزت حدود العملية العسكرية التي نفذتها حماس في اطار الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي المفتوح حول الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، منذ اطلاق “وعد بلفور” قبل أكثر من مائة عام. وهي الحملة التي تنكرت لحقه المشروع في النضال من أجل قضيته على ارضه وفي مواجهة الاحتلال لها، وكيل الاتهامات للقادة والمناضلين منه ووصفهم بالوحوش الذين يجب التخلص منهم. كان واضحاً أن الحملة تستهدف تشريع الحرب التي ستخاض ضد الشعب الفلسطيني، واستعجال القيادة الاسرائيلية لاتخاذ القرار بشأنها. ولم يكتف أركان الادارة الاميركية بذلك بل أمعنوا في تكرار التحذيرات وتوجيه الانذارات لكل من النظام الايراني والسوري ولحزب الله في لبنان من أخطار المشاركة في الحرب، فيما قادة اسرائيل يكررون التهديدات بتدميره في حالة المشاركة في الحرب القائمة.
وعليه وقبل صدور القرار عن حكومة الحرب الاسرائيلية التي تشكلت تحت وطأة الصدمة، توالت المبادرات التي بدأتها الادارة الاميركية والتي تكفلت بتأمين جميع شروط ومتطلبات تحقيق أهداف الحرب على كل المستويات السياسية والعسكرية والمالية. وكما تحركت الاساطيل وحاملات الطائرات الاميركية إلى المنطقة، فقد جرى فتح ترسانة التسليح العسكري الاميركي بالكامل لتعزيز قدرات جيش الاحتلال على نحو لم يعرفه المراقبون حتى أثناء الحروب الكبرى التي خاضتها اسرائيل ضد الجيوش العربية. هذا عدا مسارعة وزراء دفاع أكثر الدول الاوروبية لزيارة اسرائيل لطمأنة قياداتها وتجديد التزمات بلدانها ووضع كل امكاناتها بتصرفها دعماً لها.
غير أن الاخطر في الحرب التي لم تبدأ بعد، وفق التصريحات التي تصدر عن قادة دولة العدو وقادة جيشها، ومعهم أركان الادارة الأميركية، اعتبار ما يجري في قطاع غزة ومدنه ومخيماته من عمليات قتل وتدمير شامل وتهجير جماعي بالكامل لسكان القطاع الذين يقارب تعدادهم مليوني مواطن، أنه يقع في اطار التحضير للحرب التي ستغيّر خريطة فلسطين والقطاع، وتعيد رسم خرائط الشرق الاوسط كما أعلن رئيس وزراء اسرائيل. ما يعني أن الاجهاز على وجود الشعب الفسطيني وقضيته الوطنية وحقوقه على أرضه هو أولى أهدافها، وأن الاولوية هي قطاع غزة، قبل أن يأتي الدور على الضفة الغربية التي تعاني راهناً حصاراً خانقاً واشتباكات محدودة.
أما الهدف الاوسع فهو إعادة رسم خرائط الشرق الاوسط، يؤكد ذلك مضمون التصريحات التي يكررها الرئيس الاميركي ووزير خارجيته الذين لا يكتفيان بتكرار القول بحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها. وبقدر ما يرفضان البحث في الحلول السياسية ووقف التصعيد الميداني في قطاع غزة وتسهيل خروج الاجانب من القطاع وادخال المواد الاساسية الطبية والغذائية. والتأكيد مراراً وتكراراً على ضرورة وأهمية احتلاله من قبل الجيش الاسرائيلي واعتبار ذلك هدفاً غير قابل للنقاش. يعمل وزير الخارجية الاميركي على استيعاب وتدجين ردود الفعل العربية التي لا تزال تطالب بالحل السياسي للقضية الفلسطينية، وترفض الموافقة على تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بذريعة استهداف حماس. فيما عمليات الابادة الجماعية والقصف التدميري مستمرة على قدم وساق دون أي رادع أخلاقي أو سياسي باستثناء ما تطلقه فصائل المقاومة من صواريخ تطال بعض المدن والمستعمرات الاسرائيلية.
لا شك في أن الحرب الاسرائيلية الحالية التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية تختلف من حيث طبيعتها واستهدافاتها عن سائر الحروب السابقة سواء في اطار الصراع العربي الصهيوني، أو على صعيد الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. صحيح أن ميدانها الاول هو فلسطين المحتلة، إلا أن مسرحها الاوسع هو المنطقة برمتها. ما يعني أنها موصولة بما آلت إليه أوضاع بلدانها ودولها ومجتمعاتها في أعقاب عقود من الحروب والنزاعات المتعددة الاوجه. سواء أتت في اطار استراتيجية “الفوضى الخلاقة” المعتمدة اميركياً حيال قضايا المنطقة ومعضلاتها البنيوية، أو في سياق مواجهتها بمشاريع اقليمية ايرانية وتركية للهيمنة وتعزيز النفوذ فيها عبر المشاركة في تفكيك مجتمعاتها وفي النزاعات الاهلية المدمرة.
وامام اخطار الحرب الزاحفة واحتمالاتها ومفاعيلها وتداعياتها، كثيرة هي الاسئلة حول مستقبل القضية الفلسطينية، ومصائر بلدان المنطقة، والاجابة هي أيضا، تبقى علامة سؤال طال الهروب من موجباته.
Leave a Comment