سياسة

إسرائيل تلعق جراح هزيمتها المذلة في قطاع غزة والضفة الغربية

زهير هواري

بيروت 9 تشرين الاول 2023 ـ بيروت الحرية

ستبقى إسرائيل تلعق جراحها طوال أشهر إن لم نقل سنوات، نتيجة الهزيمة المذلة التي تعرضت لها في السابع من شهر تشرين الأول / أكتوبر 2023 على يد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وأدت إلى سقوط مئات القتلى وألوف الجرحى والأسرى، وزعزعة ثقة المجتمع الإسرائيلي بالجيش الذي تمت رعايته منذ ما قبل إقامة الكيان الإسرائيلي، وعلى مدى عقود متلاحقة من قبل قوى ومؤسسات وأحزاب الاستيطان الصهيوني بتشعباتها وامتداداتها، ناهيك بالمجمّع الاستعماري الغربي ممثلاً بالولايات المتحدة التي ورثت بريطانيا. اميركا سارعت مؤخراً إلى أرسال أكبر حاملة طائراتها “يو. أس. أس جيرالد فورد” وعدداً من قطعها البحرية إلى البحر المتوسط. وقامت بتزويد  الجيش الاسرائيلي بما قيمته أكثر من 8 مليارات دولار من أعتدة عسكرية ومنظومات تنسيق. يضاف لها الدعم المعنوي الذي عبر عنه كل من الرئيس بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومعهما بريطانيا وغيرهما من دول أعربت عن إدانتها للهجوم الذي شنته حركة حماس ومجموعات فلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، وسيطرت خلاله على عشرات المستوطنات ومعظم مواقع وثكنات الجيش، وألقت القبض على عشرات الأسرى، بينما فرَّ سكان المستوطنات وسط رمال الصحراء لا يلوون على شيء.

لقد هال العديد من الدول الغربية أن تتزعزع هيبة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي طالما أمدتها بالسلاح والخبرات والتكنولوجيا المتقدمة والرعاية خلال الحروب العربية ـ الإسرائيلية، مؤكدة حرصها على تفوقها، ليس على الشعب الفلسطيني فقط، بل على مجمل الدول والجيوش العربية في مصر وسوريا والأردن والعراق. ولكن فجأة ودون سابق إنذار وعلى حين غرة، تهاوت على جبهة غزة التحصينات وأرتال المدرعات ووقع مئات وألوف الجنرالات والجنود والمستوطنين صرعى أو أسرى أو جرحى. ومعهم ذلك الحرص على بقاء إسرائيل قلعة راسخة وحصينة في قلب المنطقة العربية، جاثمة بآلة حربها على صدر الشعب الفلسطيني سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، فضلاً عن أراضي فلسطين التاريخية، وكذلك مهيمنة على المنطقة العربية التي تخترقها راهناً بآلة التطبيع التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، وتكتسح بدبلوماسيتها وثقلها السياسي العقبات التي تنتصب أمامها.

كان الهجوم مباغتاً بمختلف المقاييس والحسابات. فقد بدت إسرائيل خلال السنوات المنصرمة مطمئنة إلى تفوقها السياسي والميداني. فطائراتها تسرح وتمرح في السماء السورية واللبنانية من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها. والعراق تتقاسم الهيمنة عليه كلاً من ايران وتركيا مع قواعدهما الاهلية والنظامية، والشعب الفلسطيني منقسم على نفسه سياسياً وممزق ومحاصر في قطاع غزة والضفة الغربية، وأسير المعابر والاسلاك الشائكة والجدار العازل، ومئات الحواجز التي تنهش وحدة الأرض الفلسطينية المحتلة والمحاصرة والمستباحة بسياسات اليمين الصهيوني المتطرف، وجماعات المستوطنين التي باتت عبارة عن ميليشيا رديفة لأقوى رابع جيش في العالم. وقد بلغ من ثقة إسرائيل بمدى تفوقها أنها باتت تطمح إلى قيادة المنطقة سياسياً واقتصاديا وعسكرياً، وما على الدول والجيوش العربية، إلا أن تنضوي في ركاب التبعية لها، سواء تلك التي سبق وقامت بعملية التطبيع، أو تلك المرشحة لفعل ذلك برعاية وإصرار أميركي معلن.

إذن ذات صباح عادي، وفي ما إسرائيل ترنو بناظريها إلى الموعد الذي تتمكن فيه من توقيع صك التطبيع مع المملكة العربية السعودية، بعد أن سبق وفعلت ذلك مع قافلة طويلة من الدول تضم مصر والأردن والامارات العربية المتحدة والسودان ومملكتي البحرين والمغرب، وكاستكمال لحصار الشعب الفلسطيني من محيطه العربي، إذا بها تتعرض لهزيمة ليست في الحسبان، ولم يسبق أن شهدت مثيلاً لها، اللهم باستثناء ما عانته خلال الأيام الأولى من حرب يوم الغفران في العام 1973 على يدي الجيشين المصري والسوري، قبل أن تستعيد زمام المبادرة وتستفرد بالجبهة السورية، بعد أن تبين أن ما أراده السادات لم يكن أكثر من تحريك مياه الحل السلمي الراكدة، بدليل ما اعتمده من قرارات سياسية قادت بعد اختراق خط بارليف إلى عبور معاكس للجيش الإسرائيلي قناة السويس وتطويق الجيش المصري الثالث، والدخول في مفاوضات الخطوة خطوة التي أدارها الوزير هنري كيسنجر وانتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.

والمباغت هذه المرة أن الشعب الفلسطيني المحاصر عربياً واسرائيلياً سواء في القطاع أو الضفة، هو من تولى إلحاق الهزيمة بأعتى وأحدث مؤسسة عسكرية عرفتها وتعرفها المنطقة والشرق الأوسط في تاريخه الحديث. فقد اندفعت مجموعات فدائية مقاتلة من البر والبحر والجو واقتحمت المستوطنات القريبة في غلاف غزة، وعلى مسافة 40 كلم من خطوط الفصل بين القطاع والمناطق المحتلة، وسيطرت عليها دون أن تستيقظ الوحدات النظامية من هول الصدمة وتبادر إلى أي إجراء دفاعي. وقد اعتبر الهجوم الذي فاجأ خط جبهة لم تعرف الهدوء أصلاً، ومنذ سنوات طويلة بمثابة هزيمة على الصعيدين الاستخباراتي ـ العسكري والسياسي لحكومة اليمين المتطرف التي يقودها بنيامين نتنياهو. فعلى الصعيد الأول تبين أن أي مستوى من أجهزة الأمن الإسرائيلية لم يتكهن بإمكانية الاقدام على خطوة جريئة على هذا النحو، خصوصاً ونحن نتحدث عن مئات المقاتلين بكل ما يملكونه من آلة قتال خفيفة. فضلاً عن أنهم اجتازوا عشرات الكيلومترات للوصول إلى أهدافهم وتدميرها على رؤوس من فيها. ومع أنه يفترض بالجيش الإسرائيلي أن يدافع عن مواقعه، بدا عاجزاً عن القيام بالحد الأدنى المطلوب من أضعف الجيوش. فمن النادر أن شهدت المواقع قتالاً حقيقياً أو دفاع الضباط والجنود عن ثكناتهم وتحصيناتهم، وعليه، فقد سقطت في ايدي المهاجمين عشرات الآليات بما فيها الدبابات والمدرعات وهي بحالة سليمة.

أما على الصعيد السياسي فلم تبد لدى الحكومة والوزارات المعنية أي ردة فعل مباشرة ملموسة، وسيطر الذهول على المؤسسة السياسية طوال ساعات، نتيجة هول الصدمة قبل أن تلتئم الحكومة المصغرة ويعلن نتنياهو باسم الحكومة مصغرة وموسعة الحرب على القطاع بمن وما فيه، مستهلاً ذلك باستكمال تدمير ثلاثة من أبراج غزة بعد تدمير خمسة منها سابقاً. هذا إضافة إلى قطع الكهرباء والخدمات، والشروع في قصف جوي قوامه اسراب من عشرات الطائرات، والمدفعي العشوائي، الذي استهدف المدنيين وأدى إلى سقوط المئات من الأطفال والنساء في عملية انتقامية على ما تعرض له الجيش والمستوطنون من إذلال على أيدي حفنات من المقاومين المحاصرين منذ عقود بعيدة.

الآن إلى أين؟

لا شك أن هناك حسابات معقدة أمام الإدارة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، فهناك الدعم الأميركي اللامحدود والذي وصل حد التلويح بحرب تخوضها اميركا نفسها، يقابله محاولة يائسة لترميم حكومة نتنياهو بعد الهزيمة التي تعرضت لها بمكوناتها من اليمين الديني المتطرف عبر قيام حكومة “وحدة وطنية”. وهو أمر بالغ التعقيد في ضوء الشروط المطلوبة للمشاركة مع نتنياهو، وأبرزها إبعاد كل من الوزيرين بن غافير وسموتريتش. وهو ما لا يوافق عليه نتنياهو نفسه، لأنه يجعله تحت رحمة أعدائه من معارضيه على نحو كامل. أما على الصعيد العسكري فقد أعلن رئيس الحكومة نفسه حالة الحرب. وهذه تتطلب بداية وضع كل مقدرات البلد بتصرف الجيش، والقيام بمهمة استعادة السيطرة على مستوطنات غلاف غزة التي تغلغل فيها عشرات ومئات المقاومين. ودعوة الاحتياط للالتحاق بوحداتهم، وحشد القوات على جبهتي الجنوب (غزة) والشمال (لبنان)، وهناك مئات الاسرى، ومن ضمنهم ضباط كبار في الجيش في أيدي المقاومين، واجتياح قطاع غزة قد يؤدي إلى مقتلهم مع باقي الاسرى.

وإعلان الحرب من جانب نتنياهو يعني أن القطاع والضفة أمام محاولة احتلال وسيطرة إسرائيلية متجددة، مع ما يرافق ذلك من عملية سحق وقتل وتدمير وتهجير، إذ ليس في حسابات اليمين الصهيوني متطرفاً وغير متطرف أي محاولة للتفاوض، كونها تفترض الاعتراف بأن هناك شعب له حقوقه السياسية بالتحرر والاستقلال وبناء دولته الوطنية واحتلال يجب أن يزول. وسياسة إسرائيلية من هذا النوع تحظى بدعم الولايات المتحدة وسواها من دول غربية، باعتبار أن ذلك ينهي الاندفاعة التوسعية للكيان الإسرائيلي، ومعها بالطبع الحياة السياسية لنتنياهو وفريقه، ويسجل هزيمة مدوية لهذا المشروع، ويعبر عن قدرة الشعب الفلسطيني الأعزل تقريباً على خوض المواجهة، ما يقود إلى مسار مختلف عن المسار الانحداري الذي تندفع نحوه المنطقة، وهو ما يجب أن يدفع كلاً من حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية إلى تنسيق خطواتهما السياسية والنضالية. ولعل المبادرة الشعبية من جانب حركة فتح في الضفة الغربية، معطوفة على الصمود المديد، إلى النزول إلى الشوارع والتقاطعات في القرى والبلدات والمدن، وإعلان السلطة عن تشغيل ماكينتها السياسية والدبلوماسية في المحافل الأممية، ولدى مختلف الدول هو تأكيد على تجاوز الفئويات والحسابات الصغيرة ووحدة المصير الوطني الفلسطيني، وتعدد ميادين المواجهة وتنوع أشكالها، ومحاولة تطويق توجهات الحرب الصهيونية المتجددة عبر الصمود الميداني القتالي والشعبي، ومعه الجهود والمساعي السياسية والدبلوماسية الكثيفة. وهو ما يجب أن يساهم فيه الجميع وكل من موقعه وتبعاً لقدراته وعلاقاته ارتقاءً إلى مستوى المعركة المؤكدة بمسرحها وأهدافها العدوانية الواسعة. وهي حرب أرادتها إسرائيل تعويضاً عما لحقها من هزيمة ومهانة، ولكن مهما كانت نتائج المواجهة لا بد من القول إن إسرائيل خسرت حربها منذ الساعات الأولى لنشوبها. أما الأوهام التي يمكن أن تتلبس البعض لجهة وراثة هذا الموقع أو ذاك، وكأن الموضوع هو عبارة عن منافسة سياسية في بلد يمارس حياة سياسية عادية وتقليدية، فهو أقصر الطرق نحو دفع الشعب الفلسطيني في واقعه ومستقبله ثمناً إضافياً مجانياً، طالما أنه ليس في عرف وحسابات المشروع الصهيوني ما يسمى تسوية تعترف بالجريمة الاصلية وتعمل على الخروج منها عبر حل الدولتين، الذي جرى القضاء عليه منذ لحظة التوقيع عليه وحتى الآن… وإلى موعد لا يعلمه أحد سوى ما يتقرر من نتائج صراع وجودي بالغ الضراوة.

Leave a Comment