عبد الناصر العايد*
يسود اتفاق بين المعنيين بالحالة السورية على أنها بالغة التعقيد، وأن المستقبل في هذا البلد يزداد غموضاً مع تعدد وتضارب مطالب القوى والفئات الداخلية، وازدياد عدد القوى الخارجية التي تتأثر مصالحها بنوع الحلول الممكنة. وكثيراً ما يلجأ المنظّرون السياسيون في مثل هذه الحالات إلى مقارنات تاريخية مع حالات مشابهة، لإيجاد تصور ومقاربة لما يمكن أن تنتهي إليه أزمة هذا البلد. ومع أن النتائج لا تكون مبهرة عادة، إلا أن هذا النوع من التنبؤ ينجح أحياناً في استخلاص عناصر مفيدة.
يعتمد من يختارون هذا النوع من البحث الذهني، على نماذج قريبة شكلاً ومضموناً من الحالة المُفكر فيها، مثل الظروف الدولية، أو الاقتصادية أو العسكرية أو النظم السياسة المتصارعة. وكلما كانت الحالة أقرب تاريخياً وجغرافياً، كانت الاستنتاجات أقرب إلى الدقّة، وهذا يُيسر الاختيار في حالة مثل حالة سوريا. فهي تقع بين لبنان والعراق اللذين شهدا أزمتين مشابهتين، انتهت بتغيير النظام السياسي. والترابط لا يقتصر على التجاور الجغرافي والقرب الزمني، أو تشابه الظروف والمعطيات، بل أن هناك انغماساً متبادلاً، في النموذجين، أثّر في سوريا من ناحية، وفي المآلات التي انتهت إليها الحالة في البلدين المجاورين أيضاً.
فمن المعروف جيداً أن اتفاق الطائف، الذي أقرّ العام 1989 كان برعاية سعودية، لكن سبقه اقتحام عسكري وسياسي سوري، للمسرح اللبناني الذي شهد حرباً أهلية لمدة 15 عاماً. ومنطق تدخل الأسد الأب، كان أن لبنان هو النافذة التي يمكن أن تهب منها رياح التغيير على سوريا، مستنداً في ذلك إلى خبرته السابقة في الانقلابات التي عصفت بسوريا، ومنها الانقلابات الثلاثة التي شارك فيها، وهو شخصياً كان يعيش على الأراضي اللبنانية عندما انطلق انقلاب 8 آذار 1963.
حدد اتفاق الطائف أولويته بأنها “إلغاء الطائفية السياسية”، واستعادة سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، ونزع سلاح المليشيات الوطنية وغير الوطنية، وإعادة هيكلة النظام السياسي ليسمح بتعديل التقاسم الطائفي للسلطة. وهي مبادئ وأهداف ينطبق بعضها على الحالة السورية، فالصراع الطائفي لا شك في وجوده، لكنه ليس بتحديد وحِدّة الحالة اللبنانية. مع ذلك، يمكننا أن نسأل: هل إن طائفاً “طائفياً” سورياً يبدو ممكناً كمخرج للأزمة الحالية؟ والإجابة كما تبدو لي هي لا، ولا.
لا يمكن للأطراف السورية أن تجلس على طاولة اقتسام طائفي للبلاد، ليس لأن الوضع الطائفي فيها أكثر تعقيداً من ذلك اللبناني مثلاً، بل على العكس تماماً، لأن الحالة الطائفية ومستوياتها هي أدنى بكثير، وتكاد تكون غير مرئية في سوريا لولا حكم آل الأسد واعتمادهم على طائفة بذاتها في مواجهة الجميع. والدليل على ذلك يكمن ببساطة، في حالة نظام الأسد ذاته، إذ لم يوجه حافظ الأسد عند صعوده إلى السلطة، أي مقاومة من هذا النوع، خصوصاً من الطائفة السائدة، وإنما جرت تنمية الحس الطائفي مع مَركَزة السلطة المتصاعدة في طائفته، يوماً بعد آخر، وصولاً إلى الصدام “الوطني” معها، والذي شمل كافة فئات السوريين، بما فيها فئات من الطائفة العلوية، قبل أن تتمكن أجهزة مخابراته من وضع الصراع على السكك المذهبية وتوجيهه هذه الوجهة. ووفق هذا التصور، ليس ممكناً للنخب السورية أن تصطنع قنبلة طائفية غير موجودة أصلاً لتضعها في قلب الاجتماع السوري وتفخخه لعقود مقبلة، لا سيما إذا ما نظرنا إلى مخرجات ونتائج اتفاق الطائف اللبناني، والذي أنجب ظاهرة “حزب الله” مثلاً.
أما الـ”لا” الثانية، فهي تبرز إذا ما تم تجاوز المحذور الأول، إذ كيف ستترتب الأمور “طائفياً” في ظل تمسك سلطة طائفية أقلوية بحكم بقية الطوائف، خصوصاً طائفة الأكثرية؟ وإذا كانت ستتنازل فعلاً عن الامتيازات التي تدعيها لنفسها، فإن النزاع ينتقل عندئذ إلى صعيد آخر وتصبح “دسترته” باتفاق، ضرباً من العبث المجاني الذي لا يقبله سوى المجانين.
وبالانتقال إلى النموذج العراقي، إذا ما اعتمدنا لحظة احتلال الكويت العام 1990، نقطة لبدء الأزمة الحقيقية في ذلك البلد، والتي استمرت نحو 13 عاماً، فإن مسار السلطة وعلاقته بالمجتمع يكاد يكون متوافقاً مع ما يحدث في سوريا الآن من جوانب عديدة، مثل إغراقه في العنف والتخندق الطائفي والانفصال عن فئات ومناطق كاملة أدت إلى ظهور حالات من الحكم الذاتي أو ما شابهه، وانهيار اقتصادي شامل وملف حقوقي ضخم يتضمن انتهاكات ترقى لجرائم ضد الإنسانية، واستخدام أسلحة دمار شامل. وذلك كله بالتزامن مع تدخلات خارجية واسعة النطاق تُوّجت بالغزو الأميركي العام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين واستبداله بنظام طائفي عِرقي مقنَّع.
تتوافر تقريباً كافة عناصر الحالة العراقية في المشهد السوري الراهن، ويفترق عنه في نقطة بارزة تتمثل في وجود حليفين قويين التزما علناً بالدفاع عن نظام الأسد، هما إيران وروسيا، مع التزام إسرائيلي غير معلن بالحفاظ عليه، وهو ما لم يكن نظام صدام حسين يتمتع به. وهو سبب مانع وجامع في رأينا لرفض فرضية أن تنتهي الحالة السورية إلى ما انتهت إليه الحالة العراقية الصدّاميّة.
إن التفكير في الحالة السورية، عبر توسيطها لحالتي لبنان والعراق، يؤدي تلقائياً إلى التفكير أيضاً في ما يمكن أن يؤدي إليه التغيير في سوريا من تغيير في هذين النموذجين غير المستقرين. فليس من المسلَّم به أن يؤدي إيجاد مخرج للحالة السورية، إلى الاستقرار في لبنان والعراق، بل إن الأقرب إلى الحدوث هو أن يؤدي الاستقرار في سوريا إلى زعزعة الحالة في البلدين الجارين، والعكس صحيح. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج بأننا لسنا أمام نماذج ثلاثة لدول مأزومة، بل لإقليم واحد يعيش أزمة تحول وجوديّة في ثلاثة حيزات منفصلة شكلاً، لكنها شديدة الترابط مصيرياً. وقد يبدو من السهل القول بأن الاستقرار يأتي فيما لو تُرك لبنان ليكون مسيحياً، وتُركت سوريا لتكون سنّية، وتُرك العراق ليكون شيعياً.
لكن هذا تبسيط مدرسي لا يماشي الواقع المعقّد، والواقع المعني ليس التداخل السكاني أو التعايش التاريخي وما إلى ذلك من المصطلحات التي أكل عليها الدهر وشرب. الواقع الذي نقصده هو تيار الوعي الذي يرفض هذه المواضعات الهوياتية جملة وتفصيلاً، ويدعو باختصار إلى الديموقراطية السياسية والاجتماعية كبلسم شافٍ وحيد للأوجاع التي تنتاب ذلك الإقليم منذ نحو قرن. وصعود هذا التيار بموازاة ممانعته من قبل القوى التقليدية التي تعتمد الحلول الجراحية والاستئصالية غير الناجعة، هو جوهر الأزمة الحالية التي ستستمر حتى يتم الاعتراف بهذا الخيار كحلّ نهائي، وحيد لا مفر منه.
يُلزم التفكير من خلال المقارنات التاريخية بقبول بعض التسويات والالتفاتات المؤقتة هنا وهناك، والتاريخ بطبيعته ينكص إلى الخلف في كثير من المحطات، لكنه لا يلبث أن يوالي تقدمه إلى الأمام. والأمام في الحالة السورية، كما في لبنان والعراق، بشكل لا نرتاب فيه، هو حكم ديموقراطي عابر للطوائف والإثنيات. وبتوسّطه بين النموذجين اللبناني والعراقي، قد تكون للمجتمع السوري فرصة ليكون السبّاق بينهما في الوصول إلى الهدف.
*نشرت في المدن الالكترونية بتاريخ الأحد 2023/08/20
Leave a Comment