رياض قهوجي*
جيش “حزب الله”
يستمر الحديث في لبنان وفي مناسبات عديدة عن الحاجة للاتفاق على سياسة دفاعية، أو كما يسميها الإعلام اللبناني الاستراتيجية الدفاعية. ويأخذ الحديث زخمه عندما يتصاعد التوتر مع إسرائيل على الحدود الجنوبية، أو عند حدوث مشكلات داخلية مرتبطة بتفلت السلاح غير الشرعي. لكن الحديث عن هذا الموضوع غير مجد حالياً لأسباب عدة، أهمها فقدان الأمن الإنساني وتشتت الهوية الوطنية وتفاقم الانقسام الداخلي. فالخلاف على الاستراتيجية الدفاعية هو أحد محاور الخلاف، ولكنه ليس سبب مشكلات لبنان. وانتشار السلاح غير الشرعي هو إحدى المشكلات الداخلية المستعصية، ولكنه ليس سبب العديد من المصاعب التي تواجه البلد.
وضع سياسية دفاعية يتطلب وجود دولة بكامل مقوماتها، وأهم مقومات الدولة هو وجود شعب تجمعه هوية واحدة تحت سلطة نظام قام بتوفير كل مستلزمات الأمن الإنساني، والتي تشمل الأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن البيئي والأمن الاقتصادي والأمن الشخصي والأمن السياسي. الهوية اللبنانية الجامعة موجودة اليوم فقط بين لبنانيي الاغتراب عندما يكونون في دول الانتشار. فداخل لبنان حالياً هناك هويات عديدة: فهناك من يروّج لهوية الدولة الإسلامية الشيعية التابعة للولي الفقيه في إيران، وهناك من يروّج لهوية لبنان الفينيقي المستقل عن العرب، وهناك من يعتبر هوية لبنان عربية، وهناك من يحصر هويته بطائفته، ويدعو إلى نظام فدرالي يجعله مواطناً من الدرجة الأولى في منطقته.
هناك أحزاب لا ترفع العلم اللبناني في أي من مناسباتها ولا تضعه في أي من مقارها، ولا حتى تعرفه للأجيال الجديدة في المدارس التي تملكها. هناك فتيان وشباب لا يعلمون أي شيء عن رموز لبنان التاريخية والوطنية. فالرموز هي من أهم ما تستخدمه الدول في إحياء الهوية وترسيخها وتعزيز الوحدة الوطنية. عندما يختلف أعضاء المجتمع على الهوية التي تجمعهم ينتفي تعريفهم كشعب وطن واحد، ويصبحون شعوباً متصارعة. هذه إحدى الأزمات التي لا يريد زعماء لبنان التحدث عنها أو مواجهتها، إذ إنهم يستفيدون من الانقسامات، ولكنهم يجهلون أنها باتت تهدد وجود لبنان كوطن ودولة. فمعظم الأحزاب لها رموزها الخاصة التي تقدمها على أنها رموز وطنية، فيما يراها أفراد الفئات الأخرى من الشعب اللبناني رموزاً طائفية.
وإذا ما تم تخطي مشكلة الهوية في لبنان، تبرز مشكلات أكثر خطورة تستدعي إيجاد حلول فورية لها. فانهيار القطاع المصرفي أفقد معظم اللبنانيين مدخراتهم المالية. فالفقر ينتشر في لبنان، ما يجعل عدداً كبيراً من المواطنين عاجزين عن تحمل كلفة الطبابة.
الانهيار المالي أدى إلى وقف الدعم عن الدواء والمواد الغذائية والمشتقات النفطية، والتضخم المفرط أزال القدرة الشرائية لليرة اللبنانية، وبالتالي بات جزء كبير من الشعب – وهو بازدياد – غير قادر على تحمل نفقات المعيشة والرعاية الصحية وإرسال أولاده إلى المدارس. وضاعف وجود أكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري في لبنان من حجم الأعباء الاقتصادية والمالية والاجتماعية. ازدياد الفقر رفع من نسبة السرقات والجرائم، كما أن تفلت السلاح غير الشرعي زاد من حوادث إطلاق النار والاشتباكات بين الحين والآخر بين العصابات والعشائر والأحزاب الطائفية.
ولا تزال عشرات القضايا الأمنية عالقة في زواريب القضاء المشلول، إذ لم يستطع القضاء اللبناني البت في معظم القضايا الأمنية من حوادث اغتيال وتفجير شهدها البلد من نحو عشرين عاماً. كما أن دعاوى مرتبطة بفساد السلطة والهدر تقبع في أدراج القضاة بفعل الضغوط السياسية. وبما أن العدل مفتاح الحكم فيمكن الاستنتاج أن لا حكم في لبنان، وبالتالي هناك وهم وجود الدولة. والقوى الأمنية تنفذ مهماتها بالتراضي مع قوى السلطة المهيمنة. فإذا ما قام أشخاص “عير مدعومين” بمخالفة القانون وارتكاب جرم، تستطيع القوى الأمنية تنفيذ مهمتها بنجاح والقضاء يتحرك. أما إذا ما عارض أحد قادة قوى السلطة توقيف أي من محازبيه أو محاسبته، فلن تتحرك القوى الأمنية والسلطة القضائية، والسبب عادة ما يكون “الحفاظ على السلم الأهلي”.
في خضم هذه الفوضى وتشتت الهوية الوطنية، كيف يمكن لقوى السلطة أن تضع سياسة دفاعية مشتركة؟ فهي تتطلب الاتفاق على سياسة خارجية والسيطرة على قرارات الحرب والسلم، ووجود دعم شعبي للسلطة لتستطيع تنفيذ الاستراتيجية التي تضعها. وكل هذه المتطلبات غير موجودة حالياً، وتحقيقها يحتاج إلى تنفيذ خطوات عديدة قبلها، بدءاً بتوحيد الهوية وتعزيز الأمن الإنساني وإنهاء وجود السلاح غير الشرعي. وبالتالي فإن استمرار الحديث عن أولوية الاتفاق على استراتيجية دفاعية هو مضيعة للوقت، واستخفاف بعقول الناس، وإلهاؤهم بأمور بعيدة عن أولوياتهم المتمثلة باسترداد الودائع وتحسين الظروف المعيشية والاجتماعية ووقف هدر المال العام ومحاسبة الفاسدين.
يعيش لبنان حالاً من الفوضى السياسية والاقتصادية والأمنية وهي مرجحة للاستمرار. وهذا يناسب القوة التي تهيمن على قرار الحرب والسلم في لبنان. وبما أن معادلة السيطرة على الحكم في لبنان قائمة منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري على “السلاح مقابل الفساد”، فإن القوى التي تريد وضع الأمور على السكة الصحيحة وتطبيق الدستور واستعادة السيادة ودولة القانون تواجه مهمة شاقة وصعبة جداً. وسيتطلب الأمر المزيد من العمل والجهود الداخلية والإقليمية والدولية لإعادة بناء لبنان الوطن والدولة ومن ثم وضع استراتيجية دفاعية. ومن هنا فإن انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية قد يكون مفتاح الحل أو أداة إطالة أمد الأزمة والواقع الحالي. وكلما طالت الأزمة مع وجود أكثر من مليون نازح سوري تعمل قوى خارجية على تسهيل بقائهم ودمجهم بالمجتمع اللبناني، فقدت الهوية الوطنية وجودها ومعناها وازدادت الانقسامات التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى زوال الكيان اللبناني أو عودة الحرب الأهلية أو كليهما معاً.
*نشرت في النهار العربي والدولي في 15-07-2023
Leave a Comment