بيروت 12 تموز 2023 ـ موقع بيروت الحرية
على مدى 420 صفحة من القطع الكبير يعرض الوزير السابق حسن منيمنة تجربته في وزارة التربية والتعليم العالي في كتابه الصادر حديثاً عن الدار العربية للعلوم- ناشرون، تحت عنوان هو: “الإصلاح الصعب أم المستحيل – تجربتي في وزارة التربية والتعليم العالي”. والواضح أن موضوع الكتاب يتناول الفترة التي أمضاها على رأس الوزارة، وهي الممتدة بين 9/11/ 2009 إلى 13 / 6 / 2011، علماً أن الفترة الممتدة من 13 / 1 / 2011 إلى 13 / 6 / 2011 كان وزيراً في حكومة تصريف للاعمال بعد إقالة الحكومة إثر استقالة وزراء حزب الله وحركة أمل والتيار الحر منها. الإشارة هنا تهدف إلى القول إن كامل الفترة لم تكن فيها الحكومة التي شارك فيها كاملة الصلاحيات، مع ذلك يسجل للوزير منيمنة محاولته الشجاعة والتي لم تتكلل بالنجاح كما هو معلوم. ليس بسبب قصر عمر الحكومة فقط، بل لأن الاصلاح في القطاع التربوي يفتح “صندوق بندورا” الطوائف والمذاهب ودورها في تكريس الخلل التربوي، إن من خلال مشاركتها في السلطة عبر رموز وممثلين لها، وفي حشو القطاع التعليمي الرسمي الذي توجه نحوه الاصلاح في المقام الاول، باعتباره يعاني من تدخلات وأعطاب تقود إلى هوة بينه وبين التعليم الخاص. أو عبر تأسيس مؤسساتها التعليمية الطائفية من “المهد” الحضاني إلى “اللحد” الجامعي.
إذن الكتاب يتناول فترة محددة زمنية، وهي قصيرة اذا ما اردنا التوقف عند عوائد قطاع لا تظهر نواتجه بمجرد العمل على تنظيمه واعلان الخطط والمشاريع اللازمة لنهوضه. هذا جانب والجانب الموازي يتعلق بالسؤال الذي يطرحه منيمنة على نفسه والقارئ، حول صعوبة الاصلاح أو استحالته؟ وهو سؤال لا يجيب عنه، إذ يكتفي بعرض ما حاوله خلال فترة توليه شؤون الوزارة. لكن السؤال لا يمكن أن يكون سؤال الذات إذ صاحبه يعرف الإجابة عنه، بقدر ما هو سؤال يتطلب الإجابة عنه من المجتمع اللبناني برمته. وبالأخص منه المعنيون بالقطاع التربوي بمن هم أساتذة ومعلمون وإداريون وقبلهم أهل التلامذة والطلاب في المدارس والثانويات والجامعة اللبنانية، وحتى في التعليم الخاص العام والعالي منه. الآن باتت الامور أكثر كارثية عن تلك الفترة التي يتناولها منيمنة، وإن كان يشير إليها لماماً في تقديمه عندما يتحدث عما أصاب المدارس الرسمية لدى انتشار وباء كورونا وفقدان من يرتادونها القدرات التكنولوجية مع انهيار الخدمات العامة والعجز عن شراء التجهيزات المطلوبة لأبنائهم، والتي لحقتها مباشرة حالة الانهيار الاقتصادي والمالي وشلل الإدارة العامة. والواضح من مقدمته أن الكارثة تتضاعف في ضوء ما شهدته البلاد في غضون الاعوام الثلاثة المنصرمة على صعيدي الاقتصاد والاوضاع المعيشية لذوي التلامذة والطلاب، والفوضى المحتدمة في القطاع العام بشقيه المهني والاكاديمي. ولعل ما حدث مؤخراً في مجلس الوزراء من إلغاء للشهادة المتوسطة دون علم أو أخذ رأي الوزير المعني بنظر الاعتبار هو مثال بسيط . لكن الفعلي الآن هو أن الداهية أقسى وأمر اذا ما تذكرنا أن العام الدراسي كان شكلياً خصوصاً في المدارس والمهنيات الرسمية، بينما ظل في القطاع الخاص مقبولاً نوعاً ما ولو على ومن حساب المعلمين والأساتذة. فالاضرابات بدأت قبل أن تبدأ الدراسة وواكبتها طوال العام تقريباً إلى الحد الذي لم يتعلم فيه التلامذة بمن فيهم طلاب الشهادتين سوى ما يزيد قليلاً عن شهرين .
وبصرف النظر عن عرض مواقف الاطراف المعنية بما هي الوزارة وهيئات وافراد مالكي المدارس الخاصة ونقابة المعلمين وروابط الأساتذة وتجمعاتهم النقابية، يمكن القول بوضوح أن التعليم الرسمي بالأخص مهدد من أسفل الهرم بما هي دور الحضانة حتى أعلاه بما هي الجامعة اللبنانية، بينما القطاع الخاص وإن كان يعاني من ضغط الاوضاع، إلا أن الاطراف الطائفية لن تفرط بمصيره، وستحافظ عليه باعتباره أحد مداميك بقائها وديمومتها ممسكة بحياة البلد ومصير أبنائه.
وبالعودة إلى مؤلف منيمنة يبدأ بتوجيه الشكر بالأسماء إلى عشرات الخبراء والباحثين والاساتذة الجامعيين والموظفين الذين تعاون معهم خلال فترة ولايته على الوزارة للجهود التي بذلوها، لكن الأهم يرد في التمهيد والتقديم وأملى عليه إستعادة تجربته بعد إلحاح من الاصدقاء على تدوين تلك التجربة بما لها وما تبقى منها أيضاً. وهنا بيت القصيد فالوزير منيمنة لم يأت إلى الوزارة وهو غريب عن “اورشليم”، بل كان التعليم في صلب اهتماماته أصلاً من خلال العمل الطلابي ثم التدريسي في المراحل الثانوية والجامعية وإدارته للفرع الاول لكلية الآداب ومشاركته في رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، وفي المجلس الاقتصادي والاجتماعي واللجان التي تشكلت لتطوير قانون الجامعة اللبنانية، والدراسات التي نشرها حول أوضاعها وجملة أوضاع التعليم العالي على العموم. رغم هذه الخلفية فالوصول إلى هذا الموقع يتطلب حسابات مختلفة عن مجرد تلك التجربة، خصوصاً وأن الاعطاب التي أصابت القطاع التربوي خلال سنوات الحرب ما تزال تفعل فعلها في التعليم العام والعالي على حد سواء. ففي غضون سنوات الفوضى غابت المساءلة واستشرى التوظيف الطائفي، وبلغ حدوداً لم يعد ممكناً احتمالها لاستمرار الحياة التعليمية على سوية مقبولة. والأسوأ من هذا وذاك أن أحزاب الطوائف التي باتت هي السلطة وضعت يدها على القطاع التعليمي الرسمي بشكل شامل وفرضت أحكامها عليه، واعتبرته بمثابة “اقطاعات مفرزة” لها تبعاً للجغرافيا الطائفية. يصح هذا على مدارس القرى كما يصح على كليات الجامعة اللبنانية. إزاء واقع من هذا النوع استعان منيمنة بعدد وافر من المختصين والخبراء والأساتذة والموظفين في دوائر الوزارة. لكنه في المقابل حاول فصل “قمح” التربية عن “زؤان” السياسة من خلال الحصول على “بركة الشرعية” السياسية ممثلة بأحزاب السلطة، واشراك ممثلين لها في دراسة المشاريع والقوانين والمراسيم، طالما أن ما يسعى إليه سيصل في المحصلة إلى كل من مجلسي الوزراء والنواب حيث يتقرر مصير هذه المشاريع التي لا بد منها. لا يعني ذلك أنه أَمِن “شر” ممثلي هذه القوى، فقد برزت في مفاصل معينة أن ما يقره الاكاديميون لا يسري على السياسيين، الذين يستطيعون تعطيل المشروع أو وأد المحاولة، متى رأوا أنها تتصادم مع رؤيتهم الآحادية لما يجب أن تكون عليه التربية ممثلة بكتاب التاريخ مثلاً، باعتباره أحد معاقل الاستعصاء على الحل العلمي الذي توصلت إليه مجموعة من الاكاديميين بمن فيهم ممثلي الاحزاب الطائفية.
إذن كانت المعوقات كبيرة وكثيرة، مع ذلك جرى إنجاز خطوات مهمة استهدفت في المقام الاول فتح المجال لاستعادة القيمة الفائضة التي كان يتمتع بها لبنان، والتي باتت بمثابة شريان الحياة في زمن العولمة، والحاجة الماسة إلى تعليم ذي جودة عالية، إن في مراحل التعليم العام الاكاديمي والمهني أو العالي. لذلك يستطيع القارئ أن يبدأ مع الكتاب من واقع التعليم الرسمي العام في لبنان، ثم ينتقل منه إلى خطة النهوض والتطوير التي جرى إعدادها بجهود كثيفة، مع ما تفترضه من تمهين للوظائف وإعداد نظام داخلي للمدارس ورفع سن الروضات إلى ثلاث سنوات لتوازي القطاع الخاص، وتكريس موقع للأنشطة اللاصفية والبدء بنظام الدعم المدرسي ودمج وإلغاء المدارس المتعثرة ( جرى دمج 87 مدرسة في عموم المحافظات)، وتدريس المواد الإجرائية (مسرح وفنون وموسيقى وحاسوب ورياضة ولغة ثالثة) التي نصت عليها المناهج التربوية ولم يجر الالتزام بها، والسعي إلى إحلال قطاع التعليم المهني في الموقع الذي يستحق. أما على صعيد التعليم العالي فيتطرق إلى مشروع هيكلية لمديرية التعليم العالي وسن قانون حديث للجامعة اللبنانية وقانون للتعليم العالي الخاص، وتشكيل لجان للتدقيق في أوضاع الفروع في الجامعات الخاصة ووضع معايير للضبط والجودة و… هذه جميعاً وسواها تحولت إلى قرارات ومشاريع قوانين ومراسيم، بعضها رأى النور وتم الانقلاب عليه دون أن يجد طريقه للتنفيذ، وبعضها لم يجر استكماله في مجراه الدستوري. يعرض منيمنة ملاحق نصوصية عبر حوالي مائتي صفحة لمشاريع القوانين والمراسيم هذه التي جرى إعدادها من قبل لجان متخصصة، ومعظمها تعرض للاطاحة بها مباشرة بعد خروجه من الوزارة، وبعضه الآخر ضُرب فيه بعرض الحائط ، بعد أن بات للفوضى المستشرية حراس وسدنة يستفيدون منها، ما يضع البلاد أمام مخاطر تفقد معها الامتياز الذي طالما تمتعت به. ما يحدث هو العكس على صعيد الشهادات المزوَّرة بالكامل، أو المزوَّرة على نحو مموَّه من خلال المحاباة والمحسوبية وانعدام الكفايات لمن يحملونها. والأشد خطورة يتمثل في سيل الأسئلة المتداولة بين الاوساط التربوية والاهالي حول مصير التعليم الرسمي العام، وصولاً إلى الجامعة اللبنانية التي تعمل بأعطاب كبرى وموازنة اسمية بالقياس إلى موازناتها السابقة على الانهيار المالي.
نشير إلى أن السؤال الذي طرحه الوزير منيمنة عنواناً لكتابه مطروح على البلد برمته، وعلى القوى المتضررة من الاورام الطوائفية المتفشية، طالما أن المحاولات التي يقوم بها وزراء اصلاحيون تتعرض للنسف بعد رحيل صاحبها عن موقعه. وهو ما حدث مع الوزير الدكتور اميل البيطار والوزير غسان تويني ومع الوزير منيمنة بالتأكيد، مع كثافة إنجاز يثبته في كتابه عسى أن يأتي من يستعيده للإفادة من الجهود المبذولة، من أجل اطلاق نهضة متجددة بعد هذا الركام الطاغي على المشهد التربوي والتعليمي.
يبقى أنه يسجل للوزير منيمنة إضافة أنه طبع الكتاب بنفسه بعد حوالي دزينة أعوام من تركه الوزارة، ولم يفعل كما سواه الذي أصدر مجلدين عن “إنجازاته” مع غلاف كرتوني ومزدانين بالصور الملونة لشخصه وعائلته وسفراته وعلى ورق مصقول. وعلى ذمة الرواة أنه طبعه على نفقة الوزارة التي تولّى مسؤوليتها قبل أن ينتقل إلى منصب حكومي أرفع مكافأة له من جانب المنظومة المهيمنة!
Leave a Comment