علي رضا إشراغي*
ترجمة: منى فرح
أكثر ما يقلق النخبة الإيرانية في هذه الأيام هو موضوع من سيخلف المرشد الأعلى، آية الله السيد علي خامنئي. صحيح أن خامنئي قد يكون بصحة جيدة الآن، ولكنه لن يعيش إلى الأبد. فهو يبلغ من العمر 84 عاماً، وسبق أن عانى من مشاكل صحية جدية (عولج من سرطان البروستات في العام 2014). وبحسب ما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن خامنئي كان مريضاً جداً في أيلول/ سبتمبر الماضي. وأثناء زيارته لأحد الأضرحة المقدسة، العام الماضي، أخبر الوفد المرافق له أنها قد تكون زيارته الأخيرة.
من الناحية النظرية، لا ينبغي أن يكون موضوع الخلافة مقلقاً جداً: فالطريقة الرسمية التي تتبعها الجمهورية الإسلامية في اختيار المرشد الأعلى واضحة تماماً. وفق الدستور الإيراني، سيجتمع أعضاء مجلس الخبراء (هيئة مؤلفة من 88 رجل دين)، وتختار أحد المرشحين. صحيح أن القواعد الداخلية المتبعة لا تزال غير معلنة، لكن المحللين يعرفون أن أعضاء هيئة الخبراء يأخذون كل الوقت الذي يحتاجونه قبل التصويت على الشخص الذي سينال الأغلبية ، وذلك بعد إستبعاد المرشحين الذين لا يستوفون الشروط المطلوبة.
بالطبع، العملية الفعلية لاختيار مرشد أعلى للجمهورية الإسلامية في إيران ليست بهذه البساطة. 60 بالمائة من أعضاء هيئة الخبراء أعمارهم من 70 عاماً وما فوق، وقلّة منهم فقط يتمتعون بنفوذ سياسي حقيقي، فيما الأكثرية إما وكلاء لكبار السياسيين وصنَّاع السياسة في النظام والقادة الأمنيين والعسكريين، وغيرهم من الذين يسيطرون على مؤسسات الدولة. وهذه النُخبة ممزقة بالانقسامات، ولن يكون من السهل التوصل إلى توافق في الآراء في ما بينها. في الواقع، ثمة صراع شبه دائم بين هؤلاء.
وبالنظر إلى انعدام الثقة، من المرجح أن يكون التنافس على خلافة خامنئي على أشده بين التيارين الرئيسيين في النظام؛ المحافظون والإصلاحيون. وقد تشهد إيران معركة شبيهة بتلك التي جاءت بخامنئي إلى المنصب في العام 1989: منافسة مريرة وقائمة على الصفقات. وبينما يتنافس مرشحون معلنون، يمكن أن تظهر وتتلاشى تحالفات مفاجئة.. وفي النهاية قد يكون الفائز النهائي “مفاجأة” حتى بالنسبة لأفضل المراقبين المطّلعين. الشيء الوحيد المؤكد هو أن رحيل خامنئي سوف يجلب الكثير من عدم اليقين والفوضى.
على حين غرَّة
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، توقع عدد قليل من الناس أن يكون خامنئي هو خليفة آية الله روح الله الخميني في منصب المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية الإسلامية. كان خامنئي آنذاك رجل دين من المستوى المتوسط، يفتقر للمؤهلات المطلوبة دستورياً لكي يصبح مرشداً أعلى. يومها، علَّقت شخصيات دينية بارزة في البلاد بأن خامنئي غير قادر على إصدار الأحكام الإسلامية؛ وهي تهمة ليست بسيطة في دولة ذات خصائص ثيوقراطية. حتى الخميني نفسه أكد (في رسالة مفتوحة في كانون الثاني/يناير 1988) أن خامنئي لم يكن لديه؛ في البداية، فهم صحيح للعقيدة الدينية النقدية التي تبرر وجود منصب “المرشد الأعلى”. وقال إن آراء خامنئي كانت “ضد أقواله”.
من المؤكد أن خامنئي كان لديه أصدقاء، وما يكفي من القوة. وهذا ما ساعده في الوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية في انتخابات عامي 1981 و1985. لكن في ذلك الوقت، كان رئيس الجمهورية لا يتمتع بأي سلطة حقيقية، وكان دوره رمزياً فقط. كان خامنئي ينتمي إلى اليمين السياسي للنظام، الذي اعتقد أن المرشد الأعلى ليس فوق القوانين الدينية التقليدية..
وكان الخميني، في عام 1987، قد سلّم، وبشكل مفاجئ؛ إدارة اللجان الثورية – التي كانت آنذاك القوة الأمنية المحلية الأكثر رعباً في البلاد – إلى نشطاء يساريين. فغالبية أعضاء “الحرس الثوري الإيراني” إما دعموا اليسار أو آية الله حسين علي منتظري، الذي تم تعيينه رسمياً خلفاً للخميني. كانت قيادة الحرس الثوري نفسها منقسمة بين اليمين واليسار، وكانت الدائرة المقربة من الخميني، بما في ذلك ابنه، على علاقة وتقارب وديَّ مع اليسار.
إن الكيفية التي وصل فيها خامنئي إلى القمة لغز من ألغاز الجمهورية الإسلامية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الإجراءات التي يتبعها مجلس الخبراء ما تزال سرّية. ولكن قبل شهرين فقط من وفاة الخميني، شنَّ اليسار حملة ناجحة لتنحية منتظري من منصب خليفة الخميني بعد فترة قصيرة جداً من تعيينه بشكل رسمي، ما خلق فراغاً دستورياً. بعد ذلك، عقد مجلس الخبراء جلسة مغلقة طارئة، وناقش الأعضاء في البداية إقتراحاً بأن يكون للجمهورية الإسلامية عدد من القادة بدلاً من واحد. لكن الإقتراح سقط، ورفض الأعضاء مبدأ تقاسم السلطة. ثم صوتوا ضد أبرز رجال الدين البارزين آنذاك، ومن ضمنهم رئيس مجلس الخبراء نفسه، علي مشكيني، (الذي كان صهره القوي يرأس جهاز المخابرات الإيرانية في ذلك الوقت).
في نهاية المطاف، ووفقاً للروايات، بدأ الأعضاء في اقتراح أسماء عشوائية، من بينها إسم علي خامنئي. وقدّم علي أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس البرلمان آنذاك، دعمه للرئيس الإيراني. كان اليمين لا يزال هشاً، وصوت بعض أعضائه ضد خامنئي، لكنه تمكَّن من الحصول على أصوات بعض أعضاء اليسار لصالح خامنئي. لا يزال من الصعب شرح الطريقة التي أدار فيها اليمين مهمة إنجاح إنتخاب خامنئي. لكن مشكيني (رئيس مجلس الخبراء) وصف لاحقاً النتيجة “غير المتوقعة” بأنها “تدخل إلهي”.
بعد اختيار خامنئي، تولى مجلس خاص إجراء مراجعة فورية للدستور الإيراني بهدف منح المرشد الأعلى تفويضاً مطلقاً غير مسبوق للحكم. وقد تم التصديق على هذا التفويض في استفتاء مثير للجدل. وبمجرد وصوله إلى السلطة، سارع المرشد الأعلى الجديد للتخلص من “أعدائه”. في السنوات الثلاث الأولى من قيادته، أقال خامنئي جميع المسؤولين اليساريين من كل المناصب الرئيسية تقريباً. وعيَّن رئيساً جديداً للقضاة. كما شنَّ حملة تسريح واعتقال ضد عدد من قادة الحرس الثوري بتهمة “عدم الإلتزام”، ونجح في إقصاء اليسار عن الانتخابات النيابية.. وفي غضون سنوات قليلة فقط، تحول خامنئي من لاعب هامشي في الحياة السياسية في إيران إلى قائد أول لا لبس فيه.
ترتيب الفوضى
على عكس الأنظمة الثورية الأخرى، مثل تلك الموجودة في الصين أو الاتحاد السوفيتي السابق أو فيتنام، لم تنجح الجمهورية الإسلامية في إيران في تأسيس حزب أو منظمة تتولى إدارة قضايا وأمور النخبة. بعد الثورة تم حل أهم حزبين سياسيين، حزب الجمهورية الإسلامية ومنظمة مجاهدي خلق، بسبب خلافات داخلية. كما أن “جمعية رجال الدين المتشددين”، وهي أبرز منظمة دينية في إيران، انقسمت إلى فصيل يساري وآخر يميني.
لدى الجمهورية الإسلامية في إيران هيئات حكومية مختلفة تمثل من الناحية النظرية الدولة بأكملها. لكن من الناحية العملية، هذه الهيئات في صراع دائم تقريباً. فعلى مدار العقدين الماضيين، على سبيل المثال، اختلفت وزارة الخارجية و”فيلق القدس” (الحرس الثوري)، حول من سيتولى شؤون أفغانستان وباكستان وملف الشؤون الخارجية في الشرق الأوسط. هذه المعركة مستمرة، برغم أن كلاً من وزارة الخارجية و”فيلق القدس” يديرهما متشددون (…).
ثمة صراعات أخرى تحتدم داخل المؤسسات الإيرانية. في أوائل عام 2021، على سبيل المثال، أدَّى الاقتتال الداخلي داخل المكتب السياسي للحرس الثوري إلى إقالة رئيس التكتل التجاري للحرس. بعد ذلك تم استبعاد رئيس السلطة التنفيذية من الترشح للانتخابات الرئاسية. في شباط/فبراير 2022، تم تسريب تسجيل صوتي عن شجار جرى بين قادة الحرس الثوري الإيراني، وكان بينهم الجنرال قاسم سليماني، حول تورطهم في قضية فساد مالي ضخمة. كذلك جرت تغييرات عديدة في صفوف القيادة العُليا لإذاعة جمهورية إيران الإسلامية بسبب خلافات بين مسؤولين كبار. وظهرت خلافات داخلية مماثلة بين المسؤولين عن الملف النووي. فقد اختلف كبير المفاوضين، علي باقري كني، مؤخراً مع سعيد جليلي، رئيسه السابق، حول مسودة الاتفاقية التي أيدها كني. ورداً على ذلك، استبعد علي باقري كني أحد مؤيدي سعيد جليلي من فريق التفاوض.
في إيران، كانت السلطة غير الرسمية للنُخب دائماً أكبر من السلطة التي تتمتع بها المنظمات البيروقراطية الرسمية، والتي تميل إلى جعل مثل هذه الخلافات الشخصية أكثر أهمية من الصراعات المؤسسية. لكن هذه المعارك الشخصية نادراً ما تدور حول القضايا السياسية أو الأيديولوجية. بدلاً من ذلك، فإن الطموحات الخاصة للوصول إلى السلطة والسيطرة على الموارد العامة والريع الاقتصادي تؤدي إلى صراعات بين النخبة. إن طبيعة هذه الخلافات تعني أن النخب ستتقاتل مع بعضها البعض حتى لو أدَّى ذلك إلى تقويض قدرتها على الحكم.
كان هذا واضحاً بشكل خاص خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في حزيران/ يونيو 2021. يومها قاطع بعض القادة الإصلاحيين الانتخابات. ونشر العديد من المرشحين المحافظين شائعات عن استبعاد إبراهيم رئيسي من المنافسة، وزعموا أن خامنئي هو من منعه من الترشح.
صحيح أن رئيسي فاز في النهاية، لكن الخلافات داخل نخبة تيار المحافظين كانت شديدة لدرجة أن الرئيس الجديد لم يتمكن من الإعلان عن اختياره لمنصب نائب الرئيس إلا بعد شهرين من فوزه. واستغرق الأمر عدة أشهر أخرى لتسمية محافظ جديد للبنك المركزي (…)، والذي اضطر لاستبداله بشخص آخر ينتمي إلى مجموعة مختلفة على أثر انهيار العملة الإيرانية في كانون الأول/ديسمبر 2022.
لقمة سائغة
إن الفوضى التي تطغى على الحياة السياسية في إيران موجودة قبل خامنئي. لكن المرشد الأعلى لم يفعل الكثير للمساعدة في ترسيخ النظام. على العكس من ذلك، أنشأ خامنئي نوعاً من الحكم الشخصي. بموجب هذا الحكم لم يتح للنخبة أي فرصة للتوسط في صراعاتها أو تجميع مصالحها المتنوعة، وهذا بدوره أدى إلى اضطراب مستمر. لا تنظر النخبة إلى مؤسسات الدولة على أنها أماكن لتحقيق رؤى سياسية منظمة، بل على أنها إقطاعيات مؤقتة يمكن من خلالها استغلال الموارد العامة وتحقيق الأهداف الفردية..
ولعل أفضل وأحدث مثال على ذلك هو صادق آملي لاريجاني، رئيس المحكمة العليا السابق، والعضو السابق في مجلس صيانة الدستور (الذي يمكنه الاعتراض على التشريعات أو تعديلها)، والرئيس الحالي لمجلس تشخيص مصلحة النظام (الذي يحل النزاعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور). على الرغم من جميع مناصبه المؤسسية، التي افترض العديد من المحللين أنها تشير إلى أنه خليفة محتمل لخامنئي، لم يعد لاريجاني يتمتع بسلطة ذات مغزى. فقد تم الحُكم على أحد معارفه بالسجن 31 عاماً بتهمة الفساد. كما أن أحد معاونيه الرئيسيين السابقين، عباس جعفري، صار اليوم سائق سيارة أجرة.
من المرجح أن يميز هذا التقلب العملية التي يتم من خلالها اختيار خليفة خامنئي. من المتوقع أن تتم الأمور بطريقة فوضوية إلى حد ما، خصوصاً وأن الوسطاء المخلصين قليلون. أما المرشحون، الذين يبدون أنهم الأوفر حظاً الآن، وبينهم الرئيس ابراهيم رئيسي، ونجل المرشد الأعلى، مجتبى خامنئي، فقد يفقدون شعبيتهم بسرعة. سوف تسعى النُخب، التي رفضها النظام السياسي الحالي، للاستفادة من أكبر فراغ في السلطة في إيران منذ عام 1989. وما يزيد من حالة عدم اليقين المتوقعة أن إيران تعتبر أرضاً خصبة للاضطرابات الداخلية.
لكن الواقع يقول أن النُخبة الإيرانية المعاصرة ليست مستعدة لهذه اللحظة، كما هو واضح للجميع. وهي أثبتت أنها نادراً ما تكون مستعدة لأي اضطراب؛ وقد ظهر ذلك بوضوح جلي من تراجعها عن الاحتجاجات التي تفجرت في العام 2022. وبدلاً من ذلك، عندما تواجه النُخب الإيرانية أزمة ما، فإنها ببساطة ترتجل وتتخبط. لذلك، لن تنتهي صراعاتها عندما تنتهي عملية الخلافة: فمن المرجح أن يكون المرشد الأعلى التالي “زئبقياً” مثل الحالي.
*الترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“. (**) علي رضا إشراغي (كاتب النص)، مدير البرامج في معهد صحافة الحرب والسلام، وباحث في مركز الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية التابع لجامعة نورث كارولينا.
ونشرت المقالة على موقع 180Post بتاريخ 06/ 06/ 2023
Leave a Comment