زكـي طـه
بيروت 23 أيار 2023 ـ موقع بيروت الحرية
انتهت قمة التطبيع بين الأنظمة العربية والتعايش مع الأمر الواقع العربي. وصدر البيان الختامي الذي انطوى على توجهات عامة حول المشكلات القائمة والأزمات المستدامة، التي تنتظر حلولاً لن تجدها بين مسارات التدخلات الخارجية الاقليمية والدولية المتشابكة والمفتوحة. هذا ما أكدته الاستهانة الاسرائيلية المفرطة بالقمة، وما صدر عنها بشأن قضية فلسطين وحقوق شعبها، وما يتعرض له من قبل حكومة اليمين المتطرف سواء عبر تكرار اقتحام المسجد الأقصى، أو متابعة الاغتيالات في الضفة والقطاع ومسلسل الاعتداءات على مدن وقرى الضفة الغربية. أما التحذيرات حول مخاطر انفجار الصراع المسلح على السلطة في السودان بين جيشي النظام السابق، فقد انتجت هدنة معطوبة ومؤقتة بفضل الوساطة السعودية – الاميركية.
انتهت القمة وعاد بشار الأسد للنظر في تنفيذ ما يرغب من الشروط التي تكرّس بموجبها رئيساً راعياً لانتاج وتهريب المخدرات في سوريا الخاضعة للاحتلالات المتعددة الجنسيات، ومرجعاً للسماح بعودة السوريين المهجّرين منها أو اللاجئين بعيداً عنها. أما نصيب لبنان من القمة فقد كان مخيباً لرغبات ورهانات سائر القوى السياسية المسؤولة عن أزماته المتعددة. لأن التوصية التي صدرت عنها، لم تؤكد هامشية المسألة اللبنانية وحسب، بل أتت مخالفة لاقتراح الوفد اللبناني الخاضع لهيمنة حزب الله. وبذلك تكون القمة قد حصرت دورها بإعلان “التضامن مع لبنان وحضّ الأطراف اللبنانية على التحاور لانتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين، وانتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته”.
مسؤولية اللبنانيين
انتهت القمة على توصية، الثابت فيها عدم وجود مبادرة عربية أو دولية لمعالجة الفراغ الرئاسي وأزمات لبنان. وتم حصر الأمر بمطالبة أطراف السلطة فيه بأن يتحملوا مسؤولياتهم. سواء على صعيد الفراغ الرئاسي أو سائر الملفات المتعلقة بشؤون الحكم والاصلاح. وهي الملفات التي لم يكن لها أن تتفاقم وتزداد تعقيداً واستعصاءً إلا بفعل خيارات قوى السلطة النافذه حول هوية الكيان، واندفاع سائر اطرافها المتصارعة من مواقعها الطائفية والفئوية، للاستقواء بالخارج والارتهان لمحاوره المختلفة. والتي يضاف لها ممارساتها الاحتيالية حيال الشأنين الاقتصادي والمالي، في إطار المحاصصة الحزبية، سواء في ما خص الاموال العامة أو الخاصة، والتي أوصلت البلد وأهله إلى حالة الافلاس والانهيار المريع، انتهاء بتحلل مؤسسات الدولة.
والثابت في التوصية، عدا مطالبة الاطراف اللبنانية بالتحاور لانتخاب رئيس، هو تحديد مواصفاته التي يجب أن ترضي طموح اللبنانيين ووتضمن انتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الاصلاحات المطلوبة. ما يعني أنها توجه القمة لا يحتمل التأويل والاجتهاد. الأمر الذي لم ولن يرضي الاطراف المعنية لأنه يتعارض مع مصالحها، كما يتناقض مع مبررات وجودها. ولذلك فقد عادت وبسرعة للدوران في الحلقة المفرغة، جراء عجز قواها جميعاً عن تحقيق أي من خياراتها أو أهدافها، سواء على صعيد رئاسة الجمهورية، أو سائر القضايا والازمات القائمة.
وأمام العجز الداخلي والتهميش الخارجي، بات واضحاً استحالة التقدم في ملف الاستحقاق الرئاسي. ولا يغير في الأمر أن الثنائي الشيعي يخوض معركته موحداً ومحصناً بكتلته النيابية، وبالمرشح الذي يتوافق مع مشروعه السياسي، الذي يقضي بتكريس هيمنته وتحكمه بإدارة شؤون وأوضاع البلد. بينما سائر الأطراف الأخرى لا تزال أسيرة تخبطها بين خياراتها الفئوية الضيقة، بعيداً عن المصلحة الجامعة بينها، لأن المصلحة الوطنية لا مكان لها في حساباتهم. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تتجدد الاندفاعة الهجومية للثنائي الشيعي، مقابل جبهات دفاعية مفككة وعاجزة عن التواصل، ما يعني أن ابواب البحث الجاد للوصول إلى تفاهمات الحد الأدنى لا تزال مغلقة.
ومن الفراغ الرئاسي، إلى الأزمات المتفرعة عنها والمتشابكة معها، التي لا تزال تتناسل على صعيد عمل مؤسسات الدولة وصلاحياتها. لم يعد الأمر محصوراً بدور المجلس النيابي التشريعي في ظل الفراغ، أو بصلاحيات رئيس وحكومة تصريف الاعمال. بقدر ما اصبح يطال جميع أجهزة الدولة العامة، القضائية منها والادارية والمالية والخدماتية والأمنية دون استثناء، على نحو ارتد معه البلد إلى ما دون تأسيس الدولة أو وجودها.
ومن الواضح أن ما هو مستمر من بنية الدولة ليس سوى هياكل عاجزة بالكامل عن إدارة شؤون البلد وأوضاعه على شتى الصعد. وقد تجلى ذلك، في خطاب رئيس الحكومة أمام القمة على نحو مهين للبنان واللبنانيين، ويمكن تلخيص خطاب رئيس الحكومة بأنه كان يشحذ دعماً ويستجدي تعاطفاً. أما الوزراء وسواهم من المسؤولين، فإن دورهم يقتصر على التواطوء وتبرير سياسات المحاصصة والفساد والنهب والتهريب ونتائجها. وفي ممارسة التضليل حول اسباب الانهيار الاقتصادي والمالي عبر تبادل التهم، ورفض القيام بواجباتهم وتحمل مسؤولياتهم والتهرب من تنفيذ الاصلاحات المطلوبة.
مسؤولية الطبقة السياسية
ولا يختلف الأمر بالنسبة لمرجعياتهم من قادة وزعماءالاحزاب والتيارات الطائفية الحاكمة، الذين يتشاركون المسؤولية عن طي ملفات التحقيقات القضائية الجنائية بشتى الجرائم المرتكبة بحق اللبنانيين، بدءاً من جريمة المرفأ إلى جرائم نهب أموال الخزينة وسرقة اموال اللبنانيين. وآخر الفضائح في هذا المجال، كان “عدم عثور” وزارة العدل والقضاء وأجهزة الأمن على حاكم المصرف المركزي لتبليغة موعد جلسة للتحقيق معه في التهم الموجهة له أمام القضاء الفرنسي، الذي أسرع لإصدار مذكرة توقيف بحقه عبر الانتربول. وهو الإجراء الذي شكل رسالة صارخة في وجه جميع أركان السلطة ومؤسساتها وأجهزتها، ووضعهم جميعاً أمام خيارات أحلاها مرٌّ. لأن الحاكم، كما القطاع المصرفي، كانوا ولا يزالون شركاء، ليس في الخيارات والسياسات المالية وحسب، إنما أيضاً في الممارسات الاحتيالية على امتداد ثلاثة عقود من الحكم.
لكن الأشد خطورة في اداء اطراف السلطة، كان ولا يزال التلاعب المكشوف بمصير البلد على رافعة الانقسام الأهلي حول هويته الوطنية وعلاقته بمحيطه العربي والاقليمي، عبر الارتهان للمحاور الخارجية الدولي منها أو الاقليمي، ومن خلال مصادرة قراره السياسي بقوة الأمر الواقع. وفي هذا السياق كانت الرهانات الخارجية في مقابل مصادرة حدث التحرير المجيد من الاحتلال الاسرائيلي، لتبرير استمرار السلاح باسم المقاومة، سواء بذرائع تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، أو لحماية لبنان من العدوان الاسرائيلي، ومن الارهاب الأصولي المذهبي، انتهاء بإدعاء دعم نضال وصمود ومقاومة الشعب الفلسطيني على أرضه تحت راية وحدة جبهات المواجهة مع العدو. لا شك في أن التحصن بالسلاح يقع في أطار الصراع على السلطة، والسعي لتجديد ربط لبنان بمحاور الصراع الاقليمي. أما الاستعراضات الفولكلورية فهي لتوجيه الرسائل نحو الداخل والخارج على السواء. لأن الهدف كان ويبقى، تثبيت الهيمنة الطائفية والفئوية واخضاع سائر اللبنانيين لخيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ماضوية خلافاُ لإرادة الاكثرية منهم.
تحديات الانقاذ
وعليه، وأمام مضاعفات الأزمات المتفجرة، وتصاعد وانفلات الفوضى العارمة التي تهدد مستقبل اللبنانيين ومصير بلدهم، من العبث انتظار المخلِّص الخارجي الذي لن يأت إلا في ركاب مصالحه. هذا ما أكدته التجارب السابقة، ومعها اجتماعات اللجنة الخماسية، والمبادرة الفرنسية التي ولدت متعثرة لأنها لم تراعِ مصالح الآخرين. ولهذا كله يتجدد التحدي الذي يواجه اللبنانيين حول مدى استعدادهم لتحمل المسؤولية عن انقاذ بلدهم.
ولأن المدخل للخروج من الأزمة وإعادة بناء الدولة يتمثل بإنهاء الفراغ الرئاسي، فإن النواب المستقلين وفي طليعتهم نواب التغيير، مطالبون اليوم بإعادة الاعتبار إلى مبادرتهم التي اطلقوها مبكراً حول الاستحقاق الرئاسي، والتوجه لتشكيل قوة ضغط اجتماعي سياسي من خلال السعي لتأطير القوى السياسية الديمقراطية المستقلة، واستنهاض الفئات الاجتماعية المتضررة صاحبة المصلحة الحقيقية في إعادة الاعتبار للدولة وفي بقاء البلد وإنقاذه، باعتباره الخيار الوحيد المجدي.
Leave a Comment