وجيه قانصو*
مرت سنة على انتخاب أعضاء المجلس النيابي في لبنان. ورغم التوقعات الكبرى التي عقدت على حراك 17 تشرين في تغيير معادلة التمثيل، إلا أن منظومة السلطة، استطاعت أن تقطع أوصال الآمال والزخم الذي أحدثه هذا الحراك، وضمنت لنفسها إلى حد بعيد، استمرارية وقدرة على الإمساك بمفاتيح اللعبة السياسية، وعملية صناعة القرار. الاختراق الوحيد كان في ظهور عدد وازن من النواب الجدد والمستقلين، مثلوا بمجملهم التطلع الجديد للتغيير وإحداث نقلة في مجرى أداء السلطة.
بيد أن هذا التمثيل بدا منذ البداية مربكاً، إن لجهة فقدان الخبرة الكافية في العمل البرلماني والسياسي، وإن لجهة غلبة الأداء الفردي والتقدير الذاتي للأمور، أو لجهة غياب الرؤية الجامعة أو الاستراتيجية الواضحة، لإحداث تحول أو إحداث خلخلة في مسار الحياة العامة. هي معطيات منعت من أن يشكل النواب “التغييريون”، ظاهرة متماسكة لها تمايزها الخاص في الأداء والرؤية والبرنامج، بل غلب عليها التشتت والانقسام والخلاف، ما حولهم إلى حالات فردية، تتوافق أو تفاوض أو تختلف فيما بينها ومع غيرها، على الجزئية واللحظة والآني، أي على ردات الفعل لا الفعل. ما حولها مع الوقت إلى ظاهرة صوتية خارج المجلس، وحالة مدجنة شكلية داخل المجلس، تسبغ شرعية على منظومة السلطة، بالخضوع لسقفها وقواعد توزيعها وبرنامجها داخل البرلمان، رغم الصخب والاعتراض الذي تحدثه داخل جلسات المجلس.
لا دخل للنوايا في تقييم هذه التجربة، فمرور سنة ليس مناسبة ليعرض كل نائب “تغييري” إنجازاته وتطلعاته وتميزاته الذاتية، بأن يحولها إلى حدث انتخابي، ليضمن كل نائب ثقة جمهوره والتجديد له في الدورة القادمة. وهو سلوك يستجيب لمسعى قوى السلطة في تثبيت قواعد اللعبة السياسية، التي يملكون زمامها ومداخل التحكم بوجهتها. بالتالي يتم تحويل الأفق التغييري، من مسعى لخلق قوة دفع مقتحمة لتحويل المسار العام، إلى مجرد لاعبين جدد داخل نفس مباديء وقواعد اللعبة نفسها.
لا دخل للنوايا في تقييم هذه التجربة، فمرور سنة ليس مناسبة ليعرض كل نائب “تغييري” إنجازاته وتطلعاته وتميزاته الذاتية، بأن يحولها إلى حدث انتخابي، ليضمن كل نائب ثقة جمهوره والتجديد له في الدورة القادمة. وهو سلوك يستجيب لمسعى قوى السلطة في تثبيت قواعد اللعبة السياسية، التي يملكون زمامها ومداخل التحكم بوجهتها. بالتالي يتم تحويل الأفق التغييري، من مسعى لخلق قوة دفع مقتحمة لتحويل المسار العام، إلى مجرد لاعبين جدد داخل نفس مباديء وقواعد اللعبة نفسها.
مرور سنة ليست مناسبة لاستعراض ما أنجز، بل لقراءة مسار انطلق بآمال عالية وطموحات مضخمة، ليجد نفسه بعد سنة، أمام صدمة المسافة الهائلة، بين المتوقع والواقع، بين المرغوب فيه والفعلي، بين الممكن والمستحيل. ما دفع الكثير من نواب “التغيير” إلى تسويغ الكثير من الإخفاقات، والإعلان الضمني عن نعي التغيير نفسه، بالكشف عن موانعه وشبه استحالته بسبب صلابة منظومة السلطة وشراستها.
الاعتراض على سرد الموانع، لا يلغي حقيقة هذه الموانع أو ينكر وجودها، لكنها المقاربة الأسهل والأبسط، لأنها تعفي صاحبها، من مسؤولية التقصير أو التخبط أو الخلل في الأداء، والتشويش في الرؤية. فالتغيير يقوم أولاً على المقتضي، أي حيازة المكونات الذاتية، لنفس عملية التغيير، ليكون أداؤها ومسارها مؤثراً وفاعلاً. أما موانع التغيير المتمثلة بالسلطة، فقد كانت حاضرة بقوة قبل الانتخابات النيابية، ولم يستجد أي متغير في أدائها وهيمنتها بعد الانتخابات. ما يعني أن الخلل كان في استراتيجية التغيير نفسها وبرنامجها ورؤيتها، التي لم تقرأ الواقع السياسي جيداً، ولم تدرس الإمكانات وما يمكن إحداثه وتغييره وما يستحيل فعله، ولم تحدد الأولى والأهم من الأدنى والأقل أهمية. بل أسوأ ما كنا نسمعه من التغييريين هو فهمهم ورؤيتهم لمفهوم التغيير نفسه، الذي يشكل أرضية ضرورية لوضع الاستراتيجية وضبط الأداء.
كان بين التغييريين منذ البداية تصوران مختلفان لمفهوم التغيير:
أولهما أن التغيير هو تقديم نموذج نزيه وأخلاقي في العمل السياسي، الذي يعني فيما يعنيه عدم التهاون في الفساد، عدم تمرير صفقات القوانين المشبوهة، إعطاء الأولوية لمصالح الناس. هو أداء يسهم بشق مسار سياسي جديد ومختلف، قابل في المستقبل للتعميم.
لا إشكال في أخلاقية هذا الفهم، لكن المشكلة في قصوره كمفهوم سياسي، أي قصور قابليته، لا لتغيير السلوك فحسب، بل تغيير الواقع السياسي، واستبدال ميزان القوى الحالي بميزان قوى آخر. فالمعضلة الجوهرية في لبنان لا تقتصر على الفساد والمحسوبيات، بل على موانع قيام الدولة وتثبيت سيادتها وتحقق الديمقراطية الفعلية لا الشكلية. وهذه المعضلة لن تحلها النماذج الأخلاقية، بل تحلها السياسة والتحالفات واستراتيجيات الأداء، ومقومات القوة الموضوعية، ليكون بالإمكان تحويل الواقع وتغييره، لا البناء على وضعه الراهن.
ولهذا أجمع فلاسفة السياسة الحديثين والمعاصرين، أمثال ميكيافيللي و هوبز ولوك وحتى روسو، أن السياسة تنتج معاييرها وأخلاقها، لا أن الأخلاق تنتج السياسة أو تصوبها، بل ذهب كانط ليقول أن الفعل لا يكون أخلاقياً إلا حين يصبح فعلاً سياسياً، أي فعلا عمومياً كليا، بالتالي فإن السياسة هي تؤطر الفعل الأخلاقي، بل تحدد حقيقته وتنتجه، لتكون السياسة الأرضية الضرورية لكل فعل أخلاقي ممكن.
كذلك، فقد تبنى هذا الاتجاه شعار “كلن يعني كلن”، ليشمل جميع اللاعبين والقوى السياسية بحكم سلبي واحد. الأمر الذي أوقعهم في طوباوية متخيلة، عزلتهم عن المجتمع السياسي القائم، وأفقدهم دينامية الحراك والقدرة على التواصل، أو بناء تحالفات مع القوى الأخرى، وحجب عنهم التمييز، بين من يشكل خطراً على الكيان وبين من يمارس فساداً أو مخالفات قانونية.
أما أصحاب التصور الثاني، فلم يعتبروا التغيير مسألة نموذج أخلاقي، أو تقديم تجربة أداء مختلفة، بل قضية كيان مهدد، ودولة عاجزة ومشلولة ومنتهكة السيادة. أي اعتبروا أن النموذج السياسي الاخلاقي متأخر، من حيث الاولوية عن تأمين الأرضية السياسية والقانونية اللازمة له. هو تصور أكثر واقعية، ويمنح أصحابه مرونة في الحراك، وقدرة على بناء تحالفات مع قوى أخرى تتقاطع معهم في هذا التوجه.
مشكلة هذا التصور هي أنه يشخصن دوافع التغيير. أي يعتبر أزمة الدولة والكيان سببه سلاح حزب الله غير الشرعي، إضافة إلى هيمنة شبه مبطنة للنظام الإيراني. هو تشخيص لا خلاف على أنه أحد أهم مخاطر الدولة والكيان في الزمن الراهن، إلا أنه ليس المصدر الوحيد لأزمة الدولة والكيان. فلبنان يعاني من أعطاب بنيوية، يصل بعضها إلى الذهنيات والروابط الاجتماعية والعضوية، ويصل بعضها إلى منظومات القيم والثقافة، التي ما تزال أبعد من تنتج سلوكا ديمقراطياً، أو وعياً وتقيدا بحقيقة الدولة بمعناها الحديث.
بالتالي، ليس التغيير مجرد مواجهة مع قوى قائمة، بل لا بد أن يتخذ صياغة أبعد من اللحظة الراهنة. فالتغيير ليس في إزالة موانع السيادة وعقبات قيام الدولة، فهذا موقف يتصف بالسلب، بل هو عملية إيجابية منتجة لإيجاد مقتضيات وشروط، إمكان قيام الدولة السيدة، وتحقق فعلي للديمقراطية، لا بشكلها الكرنفالي الفارغ الذي يمارس حالياً. هي معضلة تفرض الحفر إلى ما هو أعمق من قوى الأمر الواقع، يصل في عمقه إلى الذهنيات والروابط الواعية وغير الواعية، التي تجعل الواقع يعيد إنتاج نفسه، حتى لو تغيرت الوجوه والأشخاص والجهات. هذا يجعل التغيير مشروع بناء لا مشروع مواجهة فقط.
لا شك بأن الاختراق الذي حصل في المجلس النيابي، خطوة مهمة إلى الأمام، لكنه عرضة لأن يقع في فخ التفاصيل الجزئية واليومية وحتى الشخصية. فالتغيير أفقٌ حاضرٌ وجليٌ وقوةُ دفع، لا تستهلكه اللحظة الراهنة، ولا يتحقق بإزالة الموانع، بل بتوفر المقتضي، أي إيجاد السبب الكافي ليتحقق. بالتالي فإن التغيير فعل خلق وإيجاد لا فعل سلب وعدم.
*نشرت على موقع جنوبية في في 17 أيار / مايو، 2023
Leave a Comment