محمد حجيري
لا أدري ما الذي يمكننا قوله أو تأويله أو استنتاجه من النزاع الحربي بين الجنرالات أو العسكر في السودان، وما الذي يمكن قوله عن السودان نفسها… وهل بإمكاننا إضافة شيء على ما قلناه وعشناه بعد حروب اليمن وسوريا وليبيا والعراق وصولاً إلى تصدّع لبنان وانحلاله وتحلله. هذه البلدان التي توهمنا أنها تعيش “التغيير” نحو الأفضل، فإذا بها تنحدر نحو الركام و”الانهيار المديد”، اقتباساً من عنوان كتاب لحازم صاغية.
السودان البلد التي تعلمنا في كتب الجغرافيا المدرسية بأنها “أكبر بلد عربي” من حيث المساحة، وأنها لو زُرعت لأطعمت معظم سكان البلدان العربية، هي بلد الثروات التي يمر فيها نهر النيل، لكن ما تعلمناه بقي في إطار التمني وثقافة “لو”، التي لا تسمن ولا تغني من جوع. فكثر ممن سافروا وسكنوا في العاصمة الخرطوم، انتبهوا جيداً إلى حالة الفقر والحرمان والتهميش التي تعيشها هذه البلاد، وتحول جانب من أراضيها الشاسعة بؤرة للاستثمار الرخيص في السنوات الأخيرة، بينما قسم من سكانها ينام في الشارع والزوايا، أو يلجأ للعمل في “العالم السفلي” حول العالم… وفوق ذلك، كانت بلاد السودان ساحة للحروب المستعرة وموبقاتها، من الحرب الأهلية والعرقية في الجنوب إلى حرب دارفور ومجازرها وصولاً إلى حرب الجنرالات الآن، والتي تشبه إلى حد ما جانباً من “حروب الآخرين على أرضنا” في لبنان… وما بينهما طغيان العسكر ومقصلاته، من جعفر النميري إلى عمر حسن البشير وورثته، وقد فتكوا بحاضرها ومستقبلها تحت مسميات مختلفة…
توهمنا كثيراً أنّ السودان سيدخل مرحلة العافية والازدهار بعد رواج خطاب النساء الكنداكات، وإسقاط بؤس نظام عمر حسن البشير، وانتشار أغنية “الفرح السوداني” لسميح شقير، لكن الديكتاتورية العسكرية والميليشاوية سرعان ما أعادت انتاج نفسها. ذهب البشير وحلّت أشباحه، شأن معظم البلدان العربية التي حصلت فيها انتفاضات “حلُمية”، إذ استطاعت الأنظمة إعادة انتاج موبقاتها… كأن قدر هذه البلدان أو خياراتها، أن تبقى في ظل “ثقافة الرانجر” والسجون والدهاليز والمقابر الجماعية.
السودان الذي أنشدنا أغنية “بعدك عايش في بالنا” لسميح شقير لاستذكار أيقونته الشيوعية عبدالخالق محجوب الذي أعدمه جعفر النميري، عرفناه من روايات الطيب صالح “عرس الزين” و”موسم الهجرة إلى الشمال” و”مريود”، هو صاحب مقولة “ماذا فعل العسكر بالناس الطيبين؟” و”لا أمل في حكم العسكر”.عرفناه أيضاً في روايات أمير تاج السر وحمور زيادة وعبد العزيز بركة ساكن وعاطف سعيد، وأيضاً في شعر محمد الفيتوري الذي ربما يكون المواطن المعبّر الأبرز عن السودان ومحيطه، سواء بكتاباته أو بشخصيته، فهو شاعر ودبلوماسي لأب ليبي وأمّ سودانية، من قبيلة الجنينة في غرب دارفور، كان من قاطني الأسكندرية حيث تعلّم في معهدها الديني، ثم انتقل الفيتوري إلى القاهرة لدراسة كلية العلوم بالأزهر… أثار كثيراً من الجدل وسط نقاد الشعر والأدب العربي بقصائده وكتاباته الأدبية التي غلب عليها طابع الثورة والتمرد و”الزنوجة”…
كتب الناقد المصري محمود أمين العالم، عن إفريقيته: “لقد أخذ الشاعر يلونها (إفريقيا) بلون مشاعره، ويوحد تاريخه بتاريخها، ويخلع عليها مأساته الخاصة، ويبصر من خلالها خلاصه المنشود… ويتخلص من أزماته الباطنية ويخلع عليها صراعه النفسي المرير…”. أما في ما يخص انتماءه العربي أو الافريقي-“الزنجي”، فقد أعلن الشاعر “أن المسألة معقدة، حيث يقول: فأبي سوداني أسود وأمي ليبية ابنة واحد من أكبر تجار الرقيق في ليبيا في بداية القرن، وكانت جدتي لأمي جارية جميلة سوداء تزوجها جدي وأعتقها. وفي حضن هذه الجدة تربيت مدة من حياتي متشبعاً بتاريخ النخاسة”. نستخلص من الفيتوري واقع المواطن العربي، فيقال أنه خُطف في بيروت من قبل المليشيات لمجرد أنه ليبي، وبسبب اختفاء الامام موسى الصدر. ينقل الشاعر عبده وازن أنه عندما صدر ديوانه “ابتسمي حتى تمر الخيل” العام 1974، حمل غلافه الأخير كلمة نقدية كتبتها طالبة كانت تخرجت في كلية التربية– فرع الأدب العربي تدعى أمينة غصن. ولم تمض أسابيع حتى شاع أن هذه الطالبة هي “نجمة” هذا الديوان وأن الابتسامة المفترضة هي ابتسامتها وأن “شاعر إفريقيا” كان وقع في حبها عندما تعرف إليها في إحدى أمسياته الشعرية وبات أسيرها ولم يستطع الإفلات من شباك هذا الحب طوال حياته. فهو ظل يتقصى أخبارها بعد هجره بيروت وإقامته في المغرب عقب زواجه. وكان أن أحبته هذه الطالبة التي كانت في مقتبل ربيعها، وكاد حبهما يدخل قفص الزواج لو لم تحل التقاليد الطائفية والعائلية دونه، علماً أن الشاعر أبدى استعداده لاعتناق المسيحية، ولو ظاهراً، من أجل عينيّ أمينة. خسر الفيتوري الحب بسبب الطائفية اللبنانية، واُسقطت عنه الجنسية السودانية بسبب اعتراضه على نظام النميري، كما سُحب منه جواز السفر السوداني، لكن ليبيا قدمت له جنسيتها وجواز سفرها، وهو الهارب من الديكتاتورية السودانية، وجمعته علاقة قوية مع الديكتاتور معمر القذافي بعد سقوط نظام الأخير. أُسقطت عنه الجنسية الليبية أيضاً العام 2011، ما أدى إلى رحيله من ليبيا إلى المغرب حيث عاش مع زوجته المغربية بالرباط، وتوفي 24 نيسان2015 في المغرب.
كان تشرّد الفيتوري بين هويات وجنسيات، نموذجاً لما يفعله العسكر أو الجنرالات وما شابههما في العالم العربي، ونموذجاً للسياسات في العالم العربي التي تطحن الفرد لمجرد أنه صاحب رأي.
*نشرت على موقع المدن الالكتروني يوم الجمعة 2023/04/28
Leave a Comment