زاهي البقاعي
القتال الذي ألهب الخرطوم والعديد من مدن المحافظات السودانية، وأدى إلى عدد كبير من الضحايا لم يعرف إلى الآن عددهم الفعلي، وإلى مئات الاصابات بين المدنيين، وحرائق شملت معظم المدن وشل الحياة وعطَّل المواصلات العامة والمطار والتلفزيون الرسمي وسائر مرافق البلاد… هذا القتال لم يكن بمثابة صاعقة في سماء صافية. إذ الفعلي أن نُذر ما حدث كانت تتجمع منذ أشهر لتنفجر على النحو الذي انفجرت فيه بين المكونين العسكريين النظامي وقوات الدعم السريع. لكن جذره العميق يتمثل في ما شهدته البلاد على امتداد عقود متلاحقة عندما جرت الاطاحة بالحكم المدني واستبداله بحكم عسكري مع غطاء شكلي مثلته في المرحلة الاخيرة من حكم البشير القوى الاسلامية التي اعتبرته ممثلاً لها، مع إبعاد سائر مكونات الحياة السياسية عن المشاركة وفتح السجون أمام مناضليها وممارسة القمع ضدها.
الصراع بين هذين المكونين ـ الجيشين يفتح الباب على المرحلة التي انصرمت منذ اندلاع الانتفاضة السودانية وحتى ما قبلها. فإلى جانب الجيش السوداني قام البشير بمكافأة الميليشيات التي كان يطلق عليها “الجنجاويد” لمشاركتها في معارك دارفور بتحويلها إلى جيش مواز للجيش النظامي. وخلال تلك المرحلة نفذت العديد من المجازر في دارفور وغيرها. لكن البشير حاول أن يمسك العصا من الوسط بينها وبين الجيش النظامي الذي يملك تراتبية وتقاليد لا تمتلكها ما يماثلها قوة متحدرة من أصول ميليشياوية ـ قبلية. وخطا البشير خطوات بها نحو الشرعنة عندما قام بتحويلها إلى ما يسمى “قوات الدعم السريع” وتخصيص موازنة كافية لها، وتزويدها بالأعتدة اللازمة باعتبارها قوة مضمونة يطمئن لها. يضاف إلى ما خصصه لها البشير هناك امكانات اضافية تتمثل في استثمار مناجم الذهب التي تعود السيطرة عليها إلى قائدها حميدتي، ما يعني أن ما بات يتصرف به بات شبه مواز لما ينفق على الجيش النظامي. وعليه تختلف التقديرات حول حجمها الفعلي ففيما يعتبرها البعض في حدود 60 ألف مجند، هناك من يرفع العدد إلى 100 ألف مقاتل، مقابل جيش نظامي يبلغ تعداده 190 ألفاً. وهو رقم لا يستهان به في حسابات الجيوش النظامية في افريقيا وخارجها. إذن كان هناك جيشان ولكل منهما قائده. وقائداهما مثلا ضمانة من أي انقلاب على حكم البشير. وعليه فقد عملا سوية في خدمة النظام حتى أوشكت سفينته على الغرق، فتركاه يلقى مصيره المحتوم. وقبل سقوط النظام ارتكبت وحدات الدعم مجازر بحق جموع المتظاهرين الذين كانوا جموعهم يحاصرون القصر الجمهوري وقيادة الجيش. لذلك وإلى جانب المطالبة بالحكم المدني رفع المتظاهرون شعار الدعوة إلى حل هذه القوات، باعتبارها تتحمل المسؤولية عن سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى منهم. حدث هذا بعد اندلاع الانتفاضة في العام 2019، وأسقط في يد القائدين. وعلى وقع التظاهرات اليومية، شهدت البلاد مفاوضات عسيرة حول الانتقال إلى الحكم المدني والمرحلة اللازمة والآليات التي يجب أن تعتمد توصلاً إلى عودة الحكم المدني للبلاد. ولم يكن في حينه ميسوراً لأي من القائدين عبد الفتاح البرهان ومحمد دقلو (حميدتي) الظهور بمظهر الخلاف بينهما فكلاهما مستهدفين من الجماهير الغاضبة التي أصرت على تحقيق هذا الانتقال. بالطبع ثارت خلافات واسعة بين قوى الانتفاضة حول المدة الزمنية المطلوبة، ومسألة قيام حكم مدني وسط هيمنة عسكرية واضحة. ولكن هذه التجربة لم تعمر طويلاً وتولى البرهان دون سواه حفر قبرها عندما أطاح بالحكومة المدنية التي رأسها عبدالله حمدوك، ومعها كل الاتفاقات، ممهداً الطريق نحو عودة الحكم العسكري. وهكذا بتنا أمام مشهد مكرر من مشاهد الانقلابات التي نفذتها الأجهزة العسكرية في السودان وغيره. وبموجب الانقلاب عاد البرهان إلى الموقع المقرر كرئيس لمجلس السيادة الانتقالي وشغل حميدتي موقع نائب له.
لكن الامور لم تجر كما تشتهي سفنهما معاً أو مفترقين، فقد عاد السودان ليعاني العزلة الدولية والاقليمية مع إزاحة المدنيين عن السلطة، ولم ينفع التطبيع مع اسرائيل في إعادته إلى المحافل الدولية. ولم يكن أمام البرهان الذي تسلم السلطة في عملية انقلابية سافرة، سوى الرضوخ للارادة الدولية والافريقية وحركة الشارع المنتفض، وإعاد فتح البحث حول المرحلة الانتقالية والحكم المدني. خصوصاً وأن السودان وُضع تحت مجهر المتابعة الدولية والافريقية والأممية بدلالة حضور بعثة تابعة للأمم المتحدة مقيمة في العاصمة. وهكذا جرى تجديد البحث حول اتفاق الاطار الذي سيتم بموجبه الانتقال إلى الحكم المدني. ورغم تعدد القوى التي انخرطت في البحث، إلا أن القوى التي رفضت المشاركة كانت بدورها وازنة مجتمعياً ولها ثقلها في الشارع وبين النقابات خصوصاً. وقوام ما تطرحه الأخيرة هو أن المطلوب هو عودة العسكر للثكنات ودمج قوات التدخل السريع بالوحدات النظامية وفتح الحوار مع القوى المقاتلة في الاقاليم لجذبها إلى مدار الحياة السياسية العامة والتخلي عن الاعمال المسلحة، وتنظيم حوارات حول مختلف الشؤون العامة والجهوية والقبلية وتبعية المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية، والشروع في تحقيق اصلاحات تعيد انتظام الحياة العامة في البلاد وترميم الاقتصاد والمؤسسات وتنمية الزراعة والصناعة وتخفيف أكلاف الحياة عن المواطنين عبر تفعيل الإدارات العامة وما شابه.
رغم هذا كان مطلب تسليم السلطة للمدنيين وتوحيد القوى العسكرية حاضر في طروحات معظم القوى السياسية، باستثناء بعض بقايا الاخوان المتضررين من رحيل البشير. وفي امتداد ذلك بدأ الافتراق بين المكونين العسكريين. فالبرهان رأى أن عملية الدمج يجب ألا تستغرق أكثر من عامين، بينما رأى دقلو أن تحقيق هذه الخطوة يحتاج ليس إلى أقل من 10 سنوات، شرط أن يدخل عناصره وضباطه إلى الجيش النظامي الموحد برتبهم ورواتبهم دون تعديلات. وهذا من شأنه أن يثير ضباط ورتباء المؤسسة لا سيما وأن التجربة القتالية والخبرات التدريبية لهؤلاء لا تتعدى الاقتتال الأهلي دون حيازة مؤهلات علمية كما في الجيوش المحترفة. لكن جوهر الخلاف بين الرجلين، هو التنافس على رئاسة المؤسسة العسكرية، باعتبارهما يحملان رتبة فريق أول. واذا افترضنا أن كليهما يملك حسن النية والقبول بالانسحاب إلى الثكنات واقتصار المهمة التي يتولاها على تنفيذ قرارات القيادة السياسية المدنية وهو غير متوافر. ولذلك اعتمدت كلاهما المراوغة لإبقاء الوضع على ما هو عليه كما حدث خلال السنوات الاربع السابقة، حيث لم تخط البلاد خطوة واحدة نحو المأسسة المدنية والحياة الديمقراطية. ما قاد إلى التخبط وبعثرة صفوف القوى التي صنعت الانتفاضة، واضعاف نبض التغيير وعودة ” فلول” مؤيدي البشير إلى الظهور من خلال نشاط وعمل الاخوان المسلمين، ومحاولة جر البلاد إلى الحرب لإجهاض الاتفاق الاطاري والعملية السياسية برمتها، وقطع الطريق نحو التحول الديمقراطي مع ما يجب أن يواكبه من تفكيك بنية هذا التنظيم بالنظر إلى دوره خلال المراحل السابقة .
الآن وإلى أين السودان؟
يصعب تماماً التكهن بمسارات الامور وإن كان الأكثر وضوحاً هو دخول البلاد في نفق الاقتتال المظلم مع ما يواكبه من تمزق إضافي وتشرذم سياسي وإفقار مضاعف وتراكم معضلات العيش واستحالة التنمية والنهوض بالاقتصاد الوطني… وهو ما يتحمل مسؤولياته الفريقان المتحاربان اللذان استباحا البلاد ومن عليها وهددا بعودتها أميالاً إلى الوراء بعد أن تنفس الناس هواء الحرية وذاقا إمكانية القدرة على التغيير سلمياً. إن تحويل الشوارع والطرقات والساحات إلى ميادين قتال من شأنه أن يضع السودانيين أمام امتحان أصعب مما عرفوه باعتباره يلغي إرادتهم الحرة بالحرية والديمقراطية والتقدم. لكن خطورة الوضع تتعدى الجغرافيا السودانية. لذا لم يكن غريباً أن تتحرك الأمم المتحدة والاتحادين الاوروبي والافريقي الذي أوفد ثلاثة رؤساء للسودان للتوسط، والولايات المتحدة وكل من جنوب السودان كينيا وجيبوتي ومصر التي تقدمت بمبادرة لعودة الوضع إلى طبيعته، وكل منها تحاول ضبط الوضع، فإنفجار السودان إن كان يعني من أمر فهو يعني انفجار افريقيا، وتهديد مصالح دول كثيرة. ولذلك يبدو أن الكثير من الدول لن تسمح بصوملة هذا البلد الذي وإن كان يملك إمكانات واعدة، الا أنها معطلة ما ترك حبل الاستغلال والنهب والتخلف على غاربه تحت سارية أنظمة عسكرية ساقته إلى الخراب والإفقار والصراعات العبثية المدمرة.
Leave a Comment