انطوان شلحت*
لا شكّ في أن لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية أسبابًا كثيرة من شأنها أن تدفعها في اتجاه تصعيد الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967.
من هذه الأسباب لا بُدّ من الإشارة إلى ما يلي:
أولًا، التعويل على احتمال أن هذا التصعيد يمكنه أن يكبح الاحتجاجات الجماهيرية على ما توصف بأنها “خطة التعديلات القضائية”، والمستمرة منذ أكثر من 3 أشهر. وبطبيعة الحال فإن الحجّة للتصعيد موجودة، وهي ارتفاع عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين إلى مستويات غير مسبوقة منذ أعوام.
ثانيًا، الوزن الكبير لأحزاب تيّار الصهيونية الدينية في الحكومة الراهنة. فهذه الأحزاب لا تؤمن بنظرية إدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتي تنتهجها الحكومات الإسرائيلية، على الأقل منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وتحثّ على حسمه وفق رؤيتها المتطرفة. كما أنها تقف وراء آخر المستجدات في القدس والمسجد الأقصى والمدفوعة بمنطلقاتها الدينية المسيانية. وينبغي أن نشير إلى أن هذا الوزن صار إلى ازدياد بعد مماشاة الصهيونية الدينية مع خطوة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تعليق خطة التعديلات القضائية الرامية إلى إضعاف الجهاز القضائي وقيام هذا الأخير باستمالتها لتأييد تلك الخطوة، في مقابل نقدها أثمانًا نفترض أن جزءًا منها بقي سريًّا، فيما كان هناك جزء علنيّ تمثّل في موافقة نتنياهو على إقامة “حرس وطني” سيكون خاضعًا لوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، بالرغم من أن نتنياهو كان متحفظًا من الفكرة. وثمة شبه إجماع بين المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين على أن هذا “الحرس” سيكون ميليشيا خاصة لبن غفير.
ووفقًا لتحليلات إسرائيلية متطابقة، فإن الفترة الأخيرة شهدت تواترًا في الجهود التي يقوم بها نشطاء حركات “جبل الهيكل” لذبح وتقديم قرابين في باحات المسجد الأقصى، بل ونشروا إعلانات باللغة العربية في هذا الصدد. وبعض هذه التحليلات أشار إلى أنه على مدار أعوام طويلة قال الفلسطينيون إن حركات “جبل الهيكل” هي الذراع الطويلة لحكومة إسرائيل، فما بالك وبن غفير بات الآن الوزير المسؤول عن الأمن في الحرم القدسي، وأصبح من الصعب التفريق بين الطرفين.
ولا تبدو الأصداء المترتبة على هذه الأزمة الداخلية في إسرائيل في ما يتعلق بساحات المواجهة الخارجية منحصرة في الساحة الفلسطينية التي تشمل أراضي 1948 و1967 على حد سواء، بل تمتد إلى الساحة الإقليمية، وتحديدًا ما يرتبط بإيران، وبالأساس في أراضي سورية ولبنان.
وفي هذا المحور يمكن أن نشير في عجالة إلى ما يلي من تطورات تحمل دلالات عديدة:
أولًا، قامت إسرائيل في الأيام الأخيرة، وفقًا لتقارير وسائل إعلام أجنبية، بعددٍ كبيرٍ من الهجمات في الأراضي السورية، وهو ما اعتبرته تحليلات إسرائيلية مؤشرًا إلى أن كميّات السلاح التي تهرّبها إيران آخذة بالازدياد على نحوٍ هائلٍ. وبموجب هذه التحليلات، فإن عدم توخّي المستشارين الإيرانيين الذين أُرسلوا إلى سورية جانب الحذر والحماية، ما أدى إلى قتلهم في الهجمات وحملات الاغتيال، إنما يشير إلى أن الإيرانيين “لم يعودوا يشعرون بالخوف”.
ثانيًا، تساءل أكثر من محلّل إسرائيلي في ضوء ما ذُكر أعلاه: ماذا يريد الإيرانيون في الوقت الحالي؟ وأجاب عدد منهم بما يلي: إذا ما قمنا بقياس مؤشر الشجاعة، بحسب الأحداث التي تجري في الشمال، من الصعب ألّا نستنتج أنهم يسعون للمواجهة مع إسرائيل. فإن مَن أعطى الضوء الأخضر مؤخرًا لدخول مقاتل من لبنان مع عبوة كبيرة للقيام بهجوم في الأراضي الإسرائيلية يؤدي إلى سقوط عدد كبير من المصابين، يُريد حربًا. وعلى حدّ تعبير هؤلاء المحلّلين، لو أدى هذا الهجوم الذي وقع في منطقة مجيدو (شمال إسرائيل) قبل فترة وجيزة إلى وقوع عدد كبير من القتلى، لكنّا الآن نخوض “حرب لبنان الثالثة” كما أن “حرب الشمال الأولى” (التي تشمل سورية أيضًا) هي بالأساس رهن بالطرف الثاني.
تجدر الإشارة إلى أنه في 13 آذار/ مارس الماضي وقعت عملية في مفرق مجيدو، بعد أن انفجرت عبوة على جانب الطريق، استهدفت شاحنة، وأصيب في العملية مواطن عربي بجروح بالغة. وبعد العملية بأسبوع، تبيّن أن مَن وضع العبوة هو مقاتل اجتاز منطقة الحدود من لبنان واستخدم بعدها دراجة كهربائية. بعد العملية بيوم، اغتالت قوة من وحدة “يمام” وجهاز “الشاباك” الشاب وهو يحاول عبور الحدود والعودة إلى الأراضي اللبنانية. وحتى الآن هناك تلميحات مختلفة إلى احتمال تدخُّل حزب الله في العملية، ومن الممكن أن يكون ذلك بالتعاون مع أحد الفصائل الفلسطينية، في حين أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تُصدر حتى الآن تقديراتها الرسمية بهذا الشأن.
ثالثًا، في ضوء ما تقدّم أعلاه تنوّه التحليلات الإسرائيلية بأن مَن يقف في الطرف الثاني يعتقد أن إسرائيل ضعيفة ومضغوطة، ولكن إسرائيل سارعت إلى التوضيح أن على الطرف الثاني ألّا يصدّق ما يقال في وسائل الإعلام العربية التي تغطي الاحتجاجات في إسرائيل، كما يتعيّن على إيران وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني ألّا يختبروا إسرائيل وجهوزيتها العسكرية.
في هذه الأثناء فإن خطة التعديلات القضائية التي فجّرت الأزمة الداخلية ما زالت معلّقة، وتدور بشأنها مفاوضات بين الائتلاف الحكومي والمعارضة. وربما تتسبّب آخر الأوضاع الأمنية بتمديد تعليقها، ما قد يمهّد الأجواء لأزمات داخل الائتلاف الحكومي نفسه.
ومع أن عوامل كثيرة أدّت إلى هذا التعليق، في مقدمها عوامل اقتصادية، وموقف المؤسسة الأمنية الذي عكس نفسه على سلوك وزير الدفاع الإسرائيلي، فإن الأنظار اتجهت أكثر من أي شيء آخر إلى انعكاسات تلك الخطة على العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وبحسب رئيس “وحدة الدراسات الدولية والشرق الأوسط” في معهد السياسات والاستراتيجيا في جامعة رايخمن (مركز هرتسليا المتعدّد المجالات سابقًا)، د. شاي هار تسفي، فإن أقوال الرئيس الأميركي جو بايدن أنه لن يوجّه دعوة إلى رئيس الحكومة نتنياهو قريبًا لزيارة واشنطن، تعكس تصادمًا على صعيد القيم وتصعيدًا في رسائل التحذير من الإدارة الأميركية. وهذا بسبب الإسقاطات الممكنة للتغييرات المتطرفة في النظام القضائي، والخطوات في مواجهة الفلسطينيين، على شبكة العلاقات المتبادلة بين البلدين. وفي هذا السياق هناك، برأيه، قلق متصاعد في واشنطن من أن تؤدي سياسات الحكومة اليمينية الحالية إلى زعزعة “القيم الديمقراطية” المشتركة للدولتين، وإلى تغيير صورة الدولة وإلحاق ضرر جديّ بالعلاقات مع الفلسطينيين يصل إلى حدّ تصعيدٍ شاملٍ. وعمليًا أرسل بايدن إلى نتنياهو، كما يشدّد هذا الخبير، رسالة واضحة مفادها أنه تعب من اللعب بالكلمات الذي يمارسه رئيس الحكومة ويحمّله مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه إسرائيل.
وهذا ما يؤكده أيضًا مدير “التحالف الإسرائيلي الديمقراطي” الذي يعمل على تعزيز العلاقات الإسرائيلية الأميركية، روتم أوريغ، الذي كتب قائلًا: لنبدأ من النهاية؛ ليست تركيبة لجنة اختيار القضاة هي ما يهمّ جو بايدن. وليست حجة المعقولية، وأيضًا ليس بند التغلب. إن ما يهمّ الرئيس الأميركي، كما أوضح مرارًا وتكرارًا، هو الفصل بين السلطات وآليات توازنات وضوابط وحماية الدستور لحقوق الفرد، من دون أن يكون ذلك مرتبطًا بالنيات الحسنة للحاكم.
ولفت أوريغ إلى أن عضو مجلس النواب الأميركي ستيني هوير، الزعيم السابق للأكثرية الديمقراطية، والذي يُعتبر الشخص “الأكثر تأييدًا لإسرائيل في الكونغرس”، أعلن أن التشريعات التي تقترحها حكومة نتنياهو لا تحترم الفصل بين السلطات والتوازنات والكوابح، ولا تحمي حقوق الفرد. وأضيفت إلى ذلك تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، والسفير في إسرائيل توم نايدس الذي كان واضحًا للغاية وأكد أن الولايات المتحدة لن تتعامل مع الانقلاب القضائي كـ “ضربة خفيفة جانبية”.
وفي قراءة أوريغ يمكن أن نصف الأزمة بين إسرائيل والولايات المتحدة بأنها إعصار سياسي، كما يتوجب علينا أن نفهم أن الأزمات العميقة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية يمكن أن تكون قاتلة، ما يستوجب من إسرائيل وقفة جادّة.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم السبت 2023/04/08
Leave a Comment