جمال حلواني
خلال العقود الخمسة الأخيرة شهدت المدينه تغيرات كثيرة على صعيد بنيتها التمثيلية السياسية، فقد رأينا خلالها تراجعاً كبيراً على صعيد حضور ودور التيار القومي الناصري والعروبي، بعدما تحولت تشكيلاته من قوى واحزاب ناصرية، المرابطون والاتحادات الاشتركية وغيرها، إلى هوامش سياسية أو بُنى عديمة الفاعلية وملحقة بقوى السلطة.
وإذا كان تراجع هذه التنظيمات والحالات القومية العربية سببه نتائج اجتياح العدو الاسرائيلي للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية منه، وانفراط عقد احزاب الحركة الوطنية السياسي – الميداني، وحل الاطار التنظيمي عند انتفاء الوظيفة السياسية له خريف 1982، والهيمنة والوصاية السورية على الكبيرة والصغيرة في البلاد. فهذا يستدعي طرح السؤال ايضاً حول مصير تلك الاحزاب التي كانت شكلت خلال انشطار المدينة إلى قسمين سلطة الامر الواقع قبل الاجتياح الاسرائيلي والدخول السوري، والابرز فيها الحزب الشيوعي اللبناني، منظمة العمل الشيوعي، الحزب السوري القومي، حزب البعث العربي الاشتركي، بالاضافة الى التشكيلات الناصرية والشخصيات المستقلة الفاعلة .
وهنا لا بد من الاشارة إلى مرحلة ما بعد 6 شباط 1984، وصعود الحالة الطائفية بتشكيلاتها الحزبية على انقاض اليسار الذي تحول هامشاً باحثاً عن دور لا يجده الا بالعلاقة مع قوى الطوائف أو بالتحلق حولها، ومع الدور السوري المتدخل في إدارة الصراعات الاهلية العبثية للامساك بالمدينة والهيمنة على احيائها وزواريبها واستباحتها. كان ذلك قبل الطائف وبعده. وفي السياق تضخم دور الحزب الاشتراكي في المدينة في موازاة صعود نجم حركة أمل، وفي معمعة الصراع بينهما، وانكفاء التنظيمات الناصرية إلى الهامش، في موازة الانشقاقات والصراعات التي عصفت ببقية احزاب الحركة الوطنية خاصة الحزب القومي، ومحاصرة حزب البعث العراقي، مروراً بالصراع الدامي بين حركة أمل وحزب الله في الضاحية ومن ثم الحرب مع المخيمات وحولها، مما مهد لعودة قوات الجيش السوري إلى المدينة، على رافعة الاقتتال بين التنظيمات المتصارعة فيها للهيمنة على مقدراتها، كما هو الحال في سائر المناطق التي شهدت حروباً ومعارك عبثية في جميع ساحاتها.
واضافة إلى عودة الجيش السوري للامساك بالوضع الامني، فقد عانت المدينة من الاستباحة السياسية لها نظراً لعدم وجود شخصيات سياسية ذات طابع تمثيلي تعبر عن مصالحها وما هي عليه اوضاعها، في ضوء تلاشي وزن التنظيمات الناصرية، وتراجع دور القوى اليسارية.
أما الحزب الشيوعي الذي كان له دور بارز في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال من بيروت الى سائر المناطق، فقد كان لمشاركته في معارك السيطرة على المدينة بالتحالف مع الحزب الاشتراكي، نتائج سلبية على وضعه ودوره، خاصة وأن ذلك كان في اطار الرهان على ايجاد مكان له في تركيبة السلطة المقبلة، واقتحم ملعبا لا مكان له فيه، بالنظر إلى الطبيعة البنيوية لمكونات قواها وطبيعة مشاريعها ومصالحها وممارساتها، حيث صفة الوطنية لا تنطبق على وضعها ولا تلغي الطابع الطائفي لمعاركها، رغم وجود شركاء لها يحدوهم طموح حجز مواقع لهم في السلطة عند إعادة تشكلها. الامر الذي دفع ثمنه اغتيالات لصف واسع من قيادات الحزب، ومنهم القيادي الشيوعي البيروتي خليل نعوس، ما ساهم في اضعاف حضور الحزب التاريخي على الصعيد السياسي البيروتي تحديداً، ولم تنقذه رهانات الحزب بأن يكون له موقع في ظل اتفاق الطائف ومباشرة تنفيذه بقوة الوصاية السورية والرعاية الاقليمية والدولية لها.
أما منظمة العمل الشيوعي ورغم استمرار مساهمتها في جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي إلى حين توقفها أواخر ثمانينات القرن الماضي. إلا أن حضورها ودورها في المدينة قد أخذ مساراً تراجعياً منذ حل الحركة الوطنية في اعقاب الاجتياح الاسرائيلي، ثم خروجها لاحقاً من الحرب الاهلية، وانصرافها إلى مراجعة تجربة الحرب الاهلية ودورها فيها، والدخول في حالة انكفاء مديد، فقدت خلال القسم الأكبر من قواها الحزبية خاصة على الصعيد القيادي العام وفي العاصمة تحديداً، حيث كان لغياب القيادي عدنان حلواني (المخطوف) الاثر البالغ في خفوت حضورها وفعاليتها السياسية البيروتية والعامة.
اما الحزب القومي فقد تكاثرت الانشقاقات والصراعات بين تياراته المتناحرة، ما ساهم في تحجيم دوره ووجوده في بيروت، ليتحول مجرد حضور امني وعسكري في بعض أحياء مثل شارع الحمراء ورأس بيروت ومحاولة تصنيفها منطقة نفوذ له. حدث ذلك كله تنفيذا لأجندة وحسابات اقليمية.
فيما حزب البعث ـ الجناح العراقي عانى من الملاحقات والاعتقالات من قبل النظام السوري، وضمن هذا المسار أُجبر على التخلي عن الاسم، ليتحول لاحقاً إلى حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي في ظل انكفاء العديد من كوادره عن الجهر بانتسابهم إليه وممارسة النشاط كمستقلين، ليصبح حضوره داخل العاصمة رمزياً. في المقابل استمر حزب البعث السوري في موقعه مع سائر التنظيمات والمجموعات التي تدور في فلك النظام السوري برعاية حزب الله.
أما الشخصيات الوطنية المستقلة التي انضوت في اطار الحركة الوطنية اثناء قيادة كمال جنبلاط، وبقيت على ولائها لها في أعقاب استشهاده. إلا أنها وبعد تضعضع صفوفها وانفراط عقدها وحل صيغتها التنظيمية، وتراجع دور احزاب اليسار، وانفلات الصراع للهيمنة على العاصمة، فقد انزاح اكثر تلك الشخصيات للبحث عن أداور أو مواقع لهم سواء عبر ندوة العمل الوطني التي تحلقت حول رئيس الوزراء السابق سليم الحص قبل أن ينتهي دورها. أو عبر الالتحاق لاحقاً بتيار الحريرية السياسية التي شكلت مدينة بيروت مركز الثقل السياسي الرئيسي له. وقد رافق ذلك انتقال الكثير من الكوادر الحزبية وخاصة اليسارية منها للعمل كمستشارين وموظفين في مؤسسات التيار، التي سعى صاحبها لاستقطابهم مستغلا حاجاتهم المادية من ناحية، وأوضاعهم المعنوية الناجمة عن أزمة أحزابهم وهزيمة المشروع السياسي الذي ساهمت في رفع رايته. خاصة مع بدء تنفيذ اتفاق الطائف، الذي شكل مرحلة بروز وصعود الحريرية السياسية وتأسيس تيار المستقبل لاحقا، وفي موازاة انكفاء زعامات وبيوتات الاسلام السني التقليدي والموروث، واندثار التيار الناصري في المدينة بجميع تشكيلاته.
ومثالاً على ذلك نستحضر الحالة التي مثلها النائب الناصري السابق نجاح واكيم والذي ترشح في انتخابات العام 1972 في بيروت عن المقعد الاورثوذكسي مدعوما من اتحاد قوى الشعب العامل (حزب ناصري) الذي يترأسه كمال شاتيلا، وفاز في هذا الانتخابات بفارق كبير عن كل المرشحين وحتى عن الرئيس صائب سلام الزعيم البيروتي. استمر واكيم نائباً الى اول انتخابات جرت بعد اتفاق الطائف، وبدأت مواقف النائب واكيم يغلب عليها الهجوم السياسي على الرئيس رفيق الحريري، مع ظهور عدائية مفرطة إتجاهه استنادا الى اوامر تأتيه من جهة اقليمية مطلوب منه ان يلعب دوراً في تنفيذ مشروع سيطرتها على البلد.
ورغم تكرار ترشحه للانتخابات لعدة دورات لاحقة، لم يوفق وبدا واضحا ان الجو العام البيروتي قد ادرك ان تمثيله لمدينة بيروت لم يعد معبراً عن مصالحهم وقد انحسر دوره في إطلاق خطابات معادية للحريرية السياسية.
وخلال انتفاضة 17 تشرين لم يستطع واكيم مواكبتها والانخراط فيها، لانها تجاوزت دوره وخطابه واهدافه، حيث هناك قطاع كبير من الشباب البيروتي حلم في التغيير والاطاحة بالسلطة والمستزلمين لها، ولم ينجو واكيم من السهام التي اطلقت في سماء العاصمة.
المستقبل من الحضورإلى الإنكفاء
لقد سعى تيار المستقبل جاهداً إلى الاستئثار بتمثيل الطائفة في بيروت كما في سائر المناطق، وقد حاول الحريري الاب مصادرة تمثيل المكونات الطائفية البيروتية لتعزيز موقعه في السلطة، خلافاً لتوجه الوصي السوري المتحكم بالبلد والسلطة في آن الذي عمل على إلحاق الجميع به كأفراد معزولين عن المكون اللبناني سواء أكان زعامياً أم حزبياً. الامر الذي انتهى باغتيال رفيق الحريري وتولي ابنه سعد قيادة التيار والتنافس مع شركائه حول قيادة 14 آذار، في سياق الصراع المنفلت على السلطة في اعقاب انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005. استمر الامر على هذه الحال إلى حين إبعاده عن السلطة والإقامة في الخارج من خلال افقاد حكومته نصابها السياسي. أما عودته رئيساً للحكومة بعد خمس سنوات فقد كانت نتاج تسوية رئاسية قبل بموجبها التسليم باختلال التوازن الداخلي، والرضوخ لقرار حزب الله الذي قضى بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في اعقاب شغور الموقع لمدة عامين ونصف العام.
وفي موازاة ثبات تمثيل الطوائف والاحزاب، كان لقرار الحريري ممارسة الانكفاء السياسي وتجميد دور تيار المستقبل الأثر السلبي على الموقع السياسي للطائفة السنية في السلطة، هذا عدا حالة التشظي والتشرذم والضعف والضياع الذي انعكس على اوضاع الطائفة عموماً، وعلى تياره السياسي خصوصاً، الذي اصبح الحلقة الاضعف في ظل غياب البديل القادر على ملء الفراغ الحاصل.
ورغم هذا الضعف والضياع الذي يعيشه المكون السني البيروتي، وامام تماسك ونفوذ باقي المكونات، وظاهرة انتفاضة 17 تشرين وصخبها المدوّي على مساحة الوطن، بقيت المدينة عصية على انتاج خريطة جديدة واضحة، أو ذات وزن على صعيد تمثيل الطائفة عموماً، وفي مدينة بيروت خصوصاً، الذي اصبح خليطاً متناثراً يفتقد الحد الادنى من التواصل. فيما لا يزال المزاج العام ينتظر عودة المظلة الحريرية أو يتحسر على غيابها، رغم كثرة الساعين لوراثتها من اصحاب الطموحات سواء من داخلها أو من موقع الخصومة معها، وسط الكم الواسع من التشققات التي اصابت بنيتها قاعدة وتياراً.
ويبقى الحديث عن الانتفاضة وأهل بيروت امرٌ آخر، مهما تكن الآراء بها وحولها سلباً أو إيجاباً. إذ يسجل لها أنها استطاعت أن تحدث خرقاً محدوداً في البنية الاجتماعية البيروتية، وقد استقطبت العديد من المجموعات الشبابية التي حملت مبادىء واهداف وشعارات الانتفاضة، وساهمت في التحركات والاعتصامات. لكن هذه الحالة لا تختلف من حيث مآلها عما أصاب ما يشابهها في سائر المناطق. خاصة في ظل أداء المجموعات التي تحول اكثرها إلى منصات مخترقة، سواء من الأجهزة أو من قبل نواب المدينة، ومن نافسهم على تمثيلها أو خاصمهم العداء من موقع وراثة تيار المستقبل، عدا قوى الطوائف الاخرى والاجهزة الامنية. ولذلك فقد عرفت تلك المجموعات صراعات وانقسامات لا علاقة لها بالغاية التي بررت انطلاقتها وعملها. إذ تحول بعضها إلى جمعيات اهلية وانسانية واجتماعية، ومن صمد على اهدافه عبارة عن قلة قليلة هامشية لا تأثير لها على الشارع البيروتي بشكل عام، والوسط السني بشكل خاص.
كثيرة هي الاسئلة التي تملأ الامكنة والاحياء والشوارع والمقاهى عن حال الطائفة السنية في بيروت، في ظل نهضتها وقوتها على يد تيار المستقبل الذي رفعها ثم قيَّدها وصادرها وهمَّشها لاحقاً. واليوم تجد نفسها في حالة من الفراغ المستدام والذي اثر سلباً على واقع بيروت، حيث ترافق ذلك مع غياب مطلق للمبادرات التوافقية والتوحيدية التي يمكن أن تتحول مشروع سياسي قادر على تجميع القوى والعناصر الناشطة، على نحو يسمح ببروز حالة قيادية تمنحها المدينة أو الطائفة ثقتها. وهذا يعكس مدى ضعف وخواء تلك الجهات والقوى التي تفتقد النفوذ، أو الوزن السياسي والشعبي على الارض. والاسئلة لا تطال اللحظة الراهنة وحسب، بل تتناول أيضاً الآثار السلبية التي لحقت بالطائفة من العام 2016 على إثر التسوية التي جاءت بالجنرال عون رئيساً، والتي كرست اختلال التوازن الداخلي على صعيد مؤسسات السلطة، في موازاة السياسات الخارجية التي جعلت لبنان طرفاً ملحقاً بمحور الممانعة بقيادة ممثل النظام الايراني في لبنان حزب الله، وفي مواجهة المصالح العربية. مما أدى إلى عزل لبنان عن محيطه وجعله عرضة للحصار والعقوبات. وبذلك دُفع سعد الحريري وحيداً لأن يتحمّل مسؤولية ما آل إليه وضع البلد والحكم. ووجد نفسه يدفع الثمن باهظاً على صعيد الداخل نفوذاً سياسياً وحاضنة شعبية. أما الفاتورة الاكبر فقد تمثلت عربياً بالمسار التأديبي السعودي خصوصاً والخليجي عموماً، مما يتجاوز قدرته على تحمّل تبعاته.
وبغض النظر عن مفاعيل ازمة العلاقة بالراعي السعودي له، واستمرار الدعم الدولي لعودته متسلحاً بقرارات مؤتمر سيدر، ورغم تراجع وزن كتلة المستقبل النيابية في الانتخابات النيابية 2018 وتولي الحريري رئاسة الحكومة، الا أنه لم يفلح في تنفيذ الاصلاحات، ولا في تحصين موقعه شريكاً في السلطة. ولذلك وجد في الانتفاضة مدخلاً لمحاولة إعادة الاعتبار إلى موقعه ودوره. فقدم استقالة حكومته عام 2019 بناءً على “رغبة للشعب اللبناني المنتفض”. في محاولة منه لركوب موجة الانتفاضة وتحصين موقعه شعبياً وسياسياً بأمل استعادة زمام المبادرة، والسعي لفرض نفسه بأي ثمن المرشح الاوحد لأي حكومة قادمة. وعلى رافعة تكليفه المفخخ من اطراف السلطة لتشكيل الحكومة، ومحاولته رفع سقف شروطه لتعويم موقعه واعادة الاعتبار إلى دوره، لكن القوى المتحكمة في السلطة رفضت الشروط واجبرته على إنهاء التكليف.
وبعيداً عن الشعارات التي دأب الرئيس الحريري على رفعها في شارعه التي لم تعد موضع اهتمام، مثل: “الحفاظ على البلد”، و”أن البلد اكبر من الجميع”، و”مش عيب نتنازل كرمال وحدة البلد”. وهي الشعارات التي يعتقد الشارع السني راهناً أنه جرى استغلالها من قبل القوى الاخرى لصالحها، وأنها هي التي جعلت منه مكسر عصا، واخذ موقع الطائفة ورئاسة الحكومة إلى الهامش، وتركها تعيش في المجهول السياسي والامني، كل هذا ترافق مع حالة الافول التام لما يسمى تيار المستقبل، بعد أن شهد حالة من الصراعات الدائرة بين مركزي القرار والنفوذ بين أمينه العام احمد الحريري ومنافسه في بيروت احمد هاشمية، حتى طال هذا الصراع مدينة صيدا والبقاع والشمال وطرابلس وصولاً إلى عكار.
أوضاع البدائل وحدودها
يأخذنا هذا الواقع الى السؤال عن البدائل في الطائفة، ولماذا لم يستطع الرئيس نجيب ميقاتي فرض نفسه زعيماً عليها؟ الجواب وكما أن الزعامة لا تولد بقرار ذاتي من هذا المسؤول أوذاك، كذلك فإن وراثتها ليست أمراً ممكناً بالسهولة واليسر الذي يعتقده البعض. ولذلك فإن ما راكمته الحريرية السياسية من حضور ونفوذ سياسي ومالي واجتماعي منذ ما قبل اتفاق الطائف وفي امتداده، وما رافق ذلك من اغلاق للبيوتات البيروتية وغيرها، يستحيل أن يجير لمصلحة شخص يهوى الزعامة، كيف وإن لم تتوافر لديه الشروط التي تمكنه من تحقيق طموحاته. ولذلك فإن ما يجب التوقف عنده هو أن محاولات البحث عن مرجعية قيادية وازنة لم يتوقف لدى أوساط الطائفة السنية، الذين لم يجدوا امامهم الاّ دارالفتوى التي تلقفت تلك الدعوات وسعت لأن تتحول مرجعية سياسية مقررة، حتى وصل بها الامر إلى اعلان ما يشبه خطوط حمراء حول العمل السياسي في البلد وبإسم الطائفة ضمناً.
غير أن عدم نجاح دار الفتوى في تكريس دور وطني جامع يعيد للطائفة توازنها وموقعها على الخريطة السياسية، مرده فقدان الدور التاريخي لهذه الدار الذي كان محصوراً بالعمل الاجتماعي والارشاد الديني، والخضوع للنفوذ السياسي السائد داخلياً أو عربياً. والذي كان موزعاً خلال العقود الاخيرة بين الحريرية ومرجعيتها العربية التي تمثلها حصرياً المملكة العربية السعودية. وهو الواقع الذي لم تفلح الوصاية السورية في تجاوزه أو تغييره، رغم ربط النزاع القائم مع جميعة المشاريع الاسلامية “الاحباش” او الجماعات الاسلامية السنية الاخرى. ما يعني أن افتقادها دار الفتوى رؤية سياسية واضحة المعالم، يحول دون قدرتها على التحول مرجعية سياسية للطائفة، وامتلاك المبادرة لاطلاق مشروع سياسي وطني انقاذي، يهدف إلى جمع اللبنانيين حوله. دون أن يلغي ذلك موقع الطائفة التاريخي باعتباره موقع عروبي جامع ومنفتح.
وفيما يتعلق بالاستحقاق الانتخابي النيابي الذي جرى العام الفائت 2022، فقد شهدت هذه الانتخابات حالة من التشرذم والضياع لا سابق لها، في ضوء قرار تيار المستقبل عدم خوض هذه الانتخابات، ومنع أي من اعضائه من الترشح، أو المشاركة في الاقتراع تحت طائلة الفصل، والطلب من ناخبي بيروت مقاطعة الانتخابات. علماً أن التيار قد مارس دوراً تعطيلياً في تشكيل اللوائح، وخصوصا تلك اللوائح التي جرى تشكيلها برعاية رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة والنائب فؤاد المخزومي ومجموعات المعارضة أو الانتفاضة. أما نسبة التصويت الكبيرة للوائح الانتفاضة في بيروت وفوزها بثلاثة مقاعد نيابية، فقد اكدت هذه النتائج على تراجع نفوذ تيار المستقبل، بما فيه تأثيره على الناخب البيروتي.
أما أوهام الرئيس فؤاد السنيورة وفؤاد المخزومي وسواهما، بإمكانية وراثة تيار الحريري، والفوز بتمثيل الطائفة والمدينة والمشاركة في السلطه فقد بددتها النتائج الهزيلة التي نالها مرشحو اللوائح المدعومة منهما، والتي أكدت هشاشة موقعهما ووزنهما السياسي في المدينة وبين ناخبيها. وهي النتائج التي ظهّرَّت ايضاً حالة التخبط والضياع التي يعيشها المكوّن السني في العاصمة بيروت.
العائلات والجمعيات والتجمعات
لقد سهلَّ غياب تيار المستقبل والفراغ الذي تركه في الساحة البيروتية والسنية تحديداً، تكاثر محاولة ملئه، عبر تشكيل وتأسيس جمعيات واطر بيروتية يغلب عليها الطابع السياسي والاجتماعي العائلي التي تُعنى بتقديم المساعدات، وذات ميول اسلامية سنية من حيث النشأة والاهداف. والصيغ المعتمدة هي محاولة تجميع ما تيسر من الباحثين عن ادوار من ابناء المدينة، سواء أكانوا من الناشطين، أو الساعين لإثبات حضورهم كنخب اجتماعية أو سياسية، دون أن يكون لهذه التشكيلات أي صلة بمشاكل المدينة وقضاياها، رغم ما تتعرض له مرافقها العامة، وخاصة البلدية من تهميش واستباحة ميليشياوية سواء من داخلها أو خارجها. وما يغري الكثيرين في الانتساب لتلك الجميعيات الناشئة حديثاً، أو محاولات إحياء الميِّت منها، أن استحقاق الانتخابات البلدية على الابواب. ولكن ما يطعن بغالبية الاطر المشكلة هو غياب أي مشروع جاد لغاية الآن للتعامل مع الواقع الاجتماعي البيروتي، وفي الوقت نفسه يستهدف تحقيق تمثيل فعلي وفاعل لطموحات أبناء المدينة، على قاعدة برنامح الحد الادنى للنهوض بأوضاعها. فيما الجميع جلَّ همه وراثة تيار المستقبل بعيداً عما تعانيه المدنية كمجتمع متنوع على الصعد كافة.
ومن هذه الجمعيات جمعية “بيروت الخير” التي يرأسها الوزير السابق محمد شقير، الذي يعمل على تنظيم لقاء سياسي يحمل اسم “كلنا بيروت”، علّه ينجح في أن يضع موطئ قدم له على الخارطة السياسية للمدينة.
واما النائب فؤاد المخزومي فهو دائم البحث عن اطر سياسية تخدم طموحه لتمثيل المدينة، خاصة في مواسم الاستحقاقات الانتخابية مثل: “حزب الحوار الوطني” و”ملتقى بيروت – اطار سياسي” و”مجلس وحدة بيروت”.
يضاف إلى ذلك “اتحاد عائلات بيروت”، الذي اعتمده الرئيس رفيق الحريري واجهة بيروتية بديلة للجمعيات والروابط الاخرى التي كانت تدور في فلك البيوتات السياسية التقليدية التي توارثت التمثيل السياسي للمدينة، والتي انكفأ اكثرها عن النشاط السياسي لصالح الحريرية السياسية، كآل سلام والصلح والدنا واليافى والداعوق وبيّهم وغيرهم.
يضم اتحاد عائلات بيروت ممثلين لاكثر من 80 عائلة، وبعد اعلان التيار انكفائه من العمل السياسي، انسحب العديد من هؤلاء نتيجة الخلافات والصراعات فيما بينهم على التمثيل والتمويل. ولا سيما الذين كانوا يساهمون في تمويل الاتحاد، وخاصة عندما طلب منهم التيار عدم التدخل في الانتخابات. ولأن الاتحاد مؤسسة تجميعية فإنها لم تكن عصية على التفكيك .
وفيما يتعلق بالجبهة الموحدة لرأس بيروت، يحاول البعض اعادة تنشيطها، بعدما شهدت تهميشاً وانعدم دورها في السنوات السابقة. ورغم فوز عبد اللطيف عيتاني برئاستها في الانتخابات الداخلية الاخيرة، إلا أنها تعاني من حصر تمثيلها بالطائفة السنية، والانغلاق المناطقي المتمثل برأس بيروت. رغم محاولات اضفاء الطابع التعددي غير الطائفي وغير المذهبي عليها، لكنها عاجزة عن التمدد بسبب حصر دورها، بما هي عليه واقعاً دون الانفتاح على الاطار البيروتي الواسع والمتنوع.
واما بخصوص مؤسسات الحريري مثل: جميعة بيروت للتنمية التي يشرف عليها احمد هاشمية، ومحاولة الحفاظ على التركة السياسية للرئيس سعد الحريري عبر منافسة أمين عام تيار المستقبل الحالي على دوره، إلا أن نشاطها مستمر فقط من خلال بعض التقديمات الاجتماعية المحدودة.
في السياق ذاته لا تزال جمعية المقاصد الاسلامية تحاول إرساء نهج جديد للعودة إلى الحياة السياسية، من خلال السعي لتحديث المؤسسة على نحو يراعي التغير الحاصل في البيئة السنية البيروتية، وقد بادرت إلى تنظيم عدة ندوات تتناول قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، اضافة إلى إيلاء الشأن البلدي الاهتمام والرعاية، وهي تحاول ايجاد صيغة تحالف بين القوى التقليدية من اجل تشكيل لائحة مشتركة لخوض معركة الانتخابات البلدية.
في الوقت عينه لم تنقطع محاولات الرئيس فؤاد السنيوره، البحث في امكانية تشكيل اطار من بقايا تيار المستقبل، يستقطب عدداً من الذين واكبوا الحريري الأب والأبن وعملوا في مؤسساته أو في ظل إدارته، بالاضافة للتواصل مع بعض المجموعات وإدارة التنسيق فيما بينها، سعياً منه للدخول الى ملف استحقاق الانتخابات البلدية.
كما تجري محاولة لترتيب اطار سياسي بيروتي باسم “حزب بادر” قوامه اعضاء سابقون كانوا ينتمون الى الاتحاد الاشتركي العربي وحزب خط احمر الذي يضم عدداً من رجال الاعمال. هذا عدا المبادرات الفردية لأعداد واسعة من الوجوه البيروتية التي تحاول أن تحجز موقعاً لها في اللعبة السياسية، أو في الانتخابات البلديه المقبلة ومنها: لقاء الاربعاء برئاسه رامى عيتانى الذي ينعقد اسبوعياً في مقهى الغلاييني ويستضيف شخصيات سياسية واجتماعية. ولقاء باسم فادي غلاييني ينعقد كل اسبوع للبحث عن دور للقاء على الخارطة البيروتية. ومحاولة الصحافي صلاح سلام صاحب جريدة “اللواء” لإنشاء اطار سياسي باسم “جمعية التوازن الوطني”، التي تضم عدداً من الباحثين والساعين الى ايجاد حالة ودور تمثيلي على مستوى بيروت.
ورغم تعثر المحاولات المتكررة لإعادة احياء “ندوة العمل الوطني” التي انشأها الرئيس سليم الحص، والمتوقفة عن النشاط منذ زمن ليس بالقصير. يجري العمل حالياً على إعادة تفعيلها وتنشيطها من قبل رفعت بدوي، رغم صعوبة نجاح المحاولة نظراً لطبيعة العلاقة التي تربط الندوة بحزب الله، والغير مقبولة راهناً من الجمهور البيروتي سواء عبر الإنتساب لها أو المشاركة في انشطتها.
وفيما يخص حركة بهاء الحريري وإدارة حملة تسويقه زعيماً بديلاً للطائفة السنية عبر “الريموت كونترول”، فإنها لم تزل تراوح مكانها. نظراً لفشل تجربته في الانتخابات النيابية الاخيرة وتخليه عن أنصاره والعاملين معه وتركهم يتخبطون فيما بينهم وسط خلافاتهم، وفي علاقتهم مع الناخبين والجمهور السني البيروتي، مما أفقده مصداقيته مع القوى والفعاليات السياسية التي تواصلت معه.
وفي السياق نفسه ، وفي اطار التحضير للانتخابات النيابية الاخيرة، تأسس اطار اجتماعي- سياسي تحت اسم “مظلة بيروت” يحمل شعار(بيروتنا)، من خلال لقاءً انتخابي حضره ما يقارب 480 شخصاً، في محاولة منهم لإستشراف دور لهم حول قضايا المدينة العامة باعتبارها عاصمة البلد، والسعي للنهوض باوضاعها والعمل لتجديد دورها الثقافي والحضاري وحماية تراثها.
يضاف إلى ذلك محاولات عدد من الشباب البيروتي لاستنباط خيارات فكرية جديدة تدفع بالمدينة إلى الارتقاء بالإنتماء إلى تراثها الانساني والحضاري، واستعادة ما خسرته من ادوار على هذه الصعد كافة، ومنها مبادرة الخط الثالث التي تحاول ايجاد مشروع سياسي وطني رغم غلبة الطابع الاسلامى السنى على تكوين المجموعة .
اما التشكيلات البيروتية الجديدة الاخرى فإنها تعاني من التنافس السياسي، والرفض المتبادل لأن اكثرها يغرف من تركة تيار المستقبل وجمهوره. وما يطعن بإدعاءات تلك التشكيلات حول تمثيل سنة بيروت، افتقادها جميعاً لأي وزن سياسي أو شعبي تستند له.
يبقى اخيراً ما اظهرته نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة في ايار من العام 2022، فى الدائرتين الاولى والثانيه لمدينة بيروت، لناحية التصويت قياساً على عدد الناخبين. والتي بلغت في الدائره الاولى نسبة 34% من عدد الناخبين البالغ 134825 في حين بلغ عدد المقترعين 48311 فقط. وعند التدقيق في توزع الاصوات على اللوائح ونسب التصويت للمرشحين، يتبين ان اربعة لوائح من أصل ستة حصدت المواقع النيابية الثمانية. وتوزعت مقعدان لكل من لوائح القوات اللبنانية وحزب الكتائب والتيار الحر والمعارضة. ما يعكس أحجام القوى المتصارعة ومستوى المنافسة الحادة فيما بينها في ظل قانون انتخابي نسبي مركب يجمع بين اللوائح ومذاهب النواب، مما يسمح بفوز مرشحين نالوا اصواتا أقل بكثير من الذين لم يحالفهم الفوز.
اما في بيروت الثانيه، فقد كان عدد الناخبين 370882 وعدد المقترعين 154721، ما يعني أن نسبة التصويت لم تتجاوز 42%. أما المقاعد النيابية فقد توزعت على ستة لوائح من اصل تسعة. توزعت ثلاثة مقاعد للائحة الثنائي الشيعي مقعدان للشيعة ومقد للاقليات، مع فارق شاسع في الاصوات لمرشح الحزب على حساب أمل. كما فازت لائحة التغيير ايضاً بثلاثة مقاعد، مقعدان للسنة وآخر عن الارثوذكس. علماً أن النائب ابراهيم منيمنة نال أكبر عدد بين النواب السنة الفائزين، والذين توزعوا على لوائح الجماعة الاسلامية مقعدان واحد للجماعة وآخر من اللائحة، والاحباش مقعد واحد. واحتفظ فؤاد المخزومي بمقعده. كذلك الحزب الاشتراكي الذي كان مرشحه الفائز الوحيد من اللائحة المدعومة من الرئيس فؤاد السنيورة التي تعرضت لخسارة مدوية نظراً لنسبة الاصوات المتدنية، التي عكست رفض المدينة له بديلا عن زعيم تيار المستقبل الذي كان يشكل احد أركانه منذ تاسيسه. في موازاة عدد الاصوات المرتفع الذي حصده النائب منيمنة والذي يعبر عن طوق الوسط البيروت وخاصة الشباب للتغيير. وكما في الدائرة الاولى من العاصمة وعلى الصعيد الوطني العام فإن قراءة النتائج ودلالتها السياسية والاجتماعية، لا يمكن قراءتها موضوعياً بعيداً عن القانون الانتخابي الذي يشوه مبدأ النسبية من أي مضمون ديمقراطي لمصلحة الفرز الطائفي والمذهبي. وفي السياق ذاته من المؤكد أن التدقيق في النتائج وأوزان القوى ولوحة التحالفات في الانتخابات النيابية، لن تكون هي ذاتها مع الانتخابات البلدية التي يحكمها القانون الاكثري ووحدة العاصمة واعراف المناصفة واختلال التوازنات الطائفية على أكثر من صعيد.
بيروت في 6 نيسان 2023
Leave a Comment