زاهي البقاعي
بعد الاجتماع الأول بين وفديْن تفاوضييْن من معسكر بنيامين نتنياهو و”المعارضة” اجتمع الرئيس الإسرائيلي، مع ممثلي أحزاب أخرى من الائتلاف الحاكم والمعارضة في محاولة منه لإيجاد حل وسط للصراع المحتدم. جاء هذا التطور في أعقاب ما أعلنه نتنياهو على وقع تظاهرات حاشدة وتمردات وإضرابات واسعة وصدامات بين المتظاهرين والشرطة الاسرائيلية في العديد من المدن، عن تعليق إقرار قوانين “إصلاح القضاء … لمنع انقسام الأمة” لإفساح المجال أمام حوار مع المعارضة. وهو اعلان وصفه كثيرون بأنه أشبه ما يكون بوقف اطلاق النار، إذ خلاله يبقى كل طرف في مواقعه وعلى سلاحه، خصوصاً مع قول نتنياهو نفسه إنه “لن يتنازل عن اصلاح القضاء”. فضلاً عن تأكيدات حلفائه على مواصلة عملية وضع اليد على القضاء مهما كلف الأمر.
إذن لم ينجح الائتلاف الحاكم في تمرير خطة “إصلاح القضاء” خلال دورة الكنيست الشتوية التي تنتهي في 2 إبريل/ نيسان، لكن ما قدمه نتنياهو ليس أكثر من تأجيل المواجهة للدورة الصيفية، التي تبدأ 30 من الشهر نفسه وتستمر 3 أشهر.
إذن ما أمكن التوصل إليه أشبه ما يكون بالهدنة المؤقتة، لا سيما وأن نتنياهو وفريقه لا يستطيع أن يظهر بمظهر المنكسر أمام الفريق الآخر الذي يشكك أساساً في نوايا الحكومة، إذ إن الأمر لا يعدو أن يكون تأخير تمرير القوانين دون التخلي عنها، وهو ما شككت فيه 34 منظمة التي أعلنت أنها ستواصل الاحتجاج في الشارع حتى سقوط مشروع التعديلات من أساسها، وهو ما تراهن عليه الاحزاب والمنظمات المعارضة. وبناءً عليه، لا يمكن القول أن العلاقات بين المعسكرين مفتوحة على مصالحة بينهما، وإيجاد الحل الوسط بين طروحاتهما، لا سيما وأن الفريقين يمضيان قدما في إعادة تنظيم صفوفهما تمهيداً لمعاودة الصراع في أقرب فرصة ممكنة. والمؤكد أن نتنياهو وفريقه خسرا جولة، ولكنهما لم يخسرا الحرب ولم يلقيا السلاح ، فقط أرجأا متابعتها راهناً، باعتبار أن ارغامهما على الاستسلام من شأنه أن يطيح بالتحالفات التي تتشكل منها الحكومة ويعيد بعثرة قوى مشروع “الاصلاح”. وهو ما تتماهى معه فيه القوى التي اندرجت في العمل على تمريره انطلاقاً من أكثرية برلمانية هزيلة، هي الاصوات التي حصلت عليها الحكومة من الكنيست. ولكن ثمة دوافع جوهرية وسياسية تجعل من المتعذر على فريق الحكومة القبول بما انتهت إليه الجولة الاولى من الصراع. فمن الواضح ان نتنياهو وفريقه انحنى أمام العاصفة التي اطلقها المجتمع الاسرائيلي رداً على سياساته، ولذلك حاول الظهور بموقع المتعادل مع الفريق الخصم من خلال تأجيل “أم المعارك” إلى الشهر المقبل المفتوح على دورة الكنيست. العامل الجوهري الحاسم في رفض منوعات اليمين التي تجتمع تحت لواء نتنياهو الاقرار بهزيمة محاولتها، تنبع من أن هؤلاء يعتقدون أن السياسات التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة بما فيها تلك التي ترأسها نتنياهو نفسه تراجعت عن السير قدماً بالمشروع الصهيوني الأصلي، وأحلت الاعتبارات السياسية وضمنها المواقف والعلاقات الدولية محل متابعته توصلاً إلى إقامة دولة الصفاء اليهودي على سائر الاراضي التوراتية بما فيها الضفة الغربية وهضبة الجولان المحتلة، ناهيك بحسم مصير وجود الاقلية العربية على أراضي الـ 1948 . وإعادة بناء المشروع الصهيوني على أسس جديدة تتطلب استبدال الصهيونية العلمانية الإسرائيلية الرخوة المعتمدة، والعودة إلى القومية اليهودية، وقيم المحافظة والتفوق اليهودي، وحصرية الحقوق الجماعية بين النهر والبحر باليهود واستكمال تحقيق كامل السيادة اليهودية على “أرض إسرائيل التاريخية”. وهو صراع بين مجموعتين على صدارة المشروع الاستعماري الصهيوني، بما فيه الصراع على رأس المال الرمزي الاستعماري. ما يعني أن الصراع هو صراع متعدد المستويات: تاريخي واجتماعي وسيكولوجي وثقافي، بين “المستعمرين المؤسسين” و”المستعمرين المستجدين”. والواضح أن الوجود الفلسطيني في الضفة يعكر صفاء التقدم بالمشروع خطوات نحو بلوغه نهاياته بإقامة دولة اسرائيل التوراتية من النهر إلى البحر. اذن يبدو الاستيطان في صلب المشروع اليميني الديني، كما أن مدنية وتوراتية القوانين تدخل فيه بطبيعة الحال، ما دامت السلطة القضائية لاتستمد قوانينها من الموروث التوراتي، كما أنها تستطيع نزع الشرعية عن أي مشروع تعمل على تنفيذه قوى اليمين المتطرفة وترغم السلطة السياسية على العودة عنه. من هنا جاء الاصطدام بمواقع حسَّاسة في السلطة، في عملية تستهدف تحقيق الانقلاب الذي يسمح بوضع يد السلطة السياسية على السلطة القضائية، وإنهاء مبدأ فصل السلطات عن بعضها بعضاً، ما اعتبره المعارضون بأنه خطوة نحو إقامة ديكتاتورية عارية بعد تهشيم مبدأ ومؤسسات وهياكل القضاء المستقل.
والحقيقة أن استهداف القضاء يخاطب مصالح ذاتية لصالح أشخاص وقوى أساسية في الائتلاف الحاكم، بدءاً من نتنياهو الذي يحاكم بتهم فساد وتلقي رشاوي وقد يُساق إلى السجن، مروراً بكل من بن غفير وسموتريتش، ولكل من هؤلاء قوته اليمينية المتطرفة وملفه القضائي. ثم إن القوى التي تتجمع وراءهم هي وحدها التي أتاحت قيام الائتلاف، وبالتالي الثقة بالحكومة، وهي التي تسمح باستمرارها. وهو ما يعني بصريح العبارة أن نتنياهو بين خيارين أحلاهما مرّ، فاذا ما وافق على التخلي عن “الاصلاحات” سيخسر الأكثرية التي يتمتع بها وتسقط بالتالي حكومته، واذا ما استمر بها سيخسر الشارع بعد أن أظهرت الاستطلاعات تراجع شعبيته وشعبية الحكومة ومكوناتها الحزبية اليمينية التي يقود لصالح خصومه. ولعل الأخطر مما شهدته الشوارع هو ما تعلق بالجيش وأجهزة الأمن التي أعلنت وحدات من نخبتها ومعهم المتطوعين في المؤسسة العسكرية رفضها الانخراط في تشكيلات الاحتياط، ما قاد إلى تعطيل الكثير من المهام التي كان يتولاها الجهازان. وهو ما اعتبره كثير من القادة السابقين والمحللين بمثابة جرس انذار ينبه إلى احتمال الغوص في عملية تفكك الدولة وانفراط عقدها، والخوض في مستنقع حرب أهلية يشطر المجتمع الاسرائيلي إلى شطرين. خصوصاً مع احتمال تسرب هذا الانشطار إلى المؤسسة العسكرية النظامية، وهو احتمال كان مطروحاً، و من شأنه أن يؤذن بفرط الكيان من مدخل تفكك عموده الفقري- الجيش. صحيح أن سلاحاً لم يظهر خلال التظاهرات والمواجهات، ولكن الأصح أن اسرائيل كانت على حافة انفلات العنف التي لجمها التأجيل، الذي لا يمكن أن يرتقي إلى مستوى الحلول والتسويات.
والمؤكد أن الأزمة التي مرت وتمر بها إسرائيل غير مسبوقة، وتكمن خطورتها أنها تتجاوز الصراع الديمقراطي، لتمتدّ إلى تفكك المجتمع وبنية الدولة وتراتبية الإدارة من خلال رفض وعدم طاعة الأوامر الصادرة عن المسؤولين في السلطة. لا يعني ذلك أن اسرائيل على حافة الانهيار كمشروع استعماري استيطاني، لكن حالة الانقسام ستكون أشد عمقاً بين مؤيدي يمين الوسط واليسار من ناحية، ومؤيدي الليكود واليمين، وفي طليعتهم المتدينون من ناحية أخرى الذين باتوا يشعرون، وبشكل يومي متزايد، بأنهم هم المستهدفون تحديداً من تحرّكات اليسار والوسط العلماني، وأن هيمنتهم على الحكم بهذا الشكل الواسع تفرض عليهم مواجهة هذه الحالة العدائية.
ذلك كله قد يدفع القوى المكونة لليمين الاستيطاني الذي يتبوأ مواقع في الحكومة ويضم في صفوفه تنويعات من أقصى اليمين الشعبوي واليمين الكهاني والصهيونية والحردلية (المتزمتة قومياً ودينياً) والحريدية التي مرت بعملية “تهويد قومي” مستمرة، أن يحاول حرف الانظار عن سياساته عبر التوجه نحو تسليط الضوء على الفلسطينيين في محاولة لتغليب التناقض معه عن الصراع مع بقية الاسرائيليين الذين يعبرون عن عدائهم له. ما يقود إلى شل المعارضة التي تقوم بالاحتجاجات على خطة الانقلاب القضائي التي تجمع أحزاب الوسط واليسار واليمين الدولتي. ولكل معسكر من المعسكرين سماته الطبقية والاجتماعية والإثنية ورؤيته لطابع الدولة. ويتوافق المعسكران على يهودية الدولة وعلى الصهيونية لكنهما يختلفان على باقي التفاصيل. وهذا التوجه يمكن أن نلمس مقدماته في ما تشهده مدن وقرى الضفة الغربية ، فضلاً عما أفصح عنه بن غفير مراراً وتكراراً حول فلسطينيي العام 1948. مضافاً إليها السياسات المتدرجة المعتمدة وأبرزها اقرار قانون يهودية الدولة.
ومما لاشك فيه أن عوامل مقررة في الوصول إلى التهدئة المؤقتة التي انتهت إليها الامور من ضمنها الموقف الاميركي الذي عارض حكومة نتنياهو أصلاً وبالطبع التشريعات القضائية الخاصة ورحب بتعليق تشريعات خطة إضعاف جهاز القضاء، وتأييد الاتجاه نحو التسوية والحوار. فقد كانت العلاقات مع اميركا متوترة منذ أن تشكلت الحكومة وضاعفتها توتراً تصريحات سموتريتش حول قرية حوارة وسياسات بن غفير في وزارة الأمن، وبلغت ذروتها في امتناع الرئيس بايدن عن استقبال نتنياهو كما جرت العادة. إذن تفاعلت التظاهرات مع الضغوط المتصاعدة لتقود إلى هذا التراجع العارض الذي واجهه اليمين الديني بمواقف تشدد على استقلالية قرار اسرائيل ورفض الضغوط عليها “لأنها ليست نجمة في العلم الاميركي” و.. وتبقى اليد على زناد سلاحي ْ الفريقين المتصارعين.
Leave a Comment