علي العبدالله*
تأتي الذكرى الثانية عشرة لثورة الحرية والكرامة، والشعب السوري قد زادت جراحُه وآلامه، فبعد القتل والتدمير والنزوح والتشتت في جميع أرجاء المعمورة، جاء الزلزال المدمّر ليعمّق مآسيه وقلقه على مستقبل أبنائه وأحفاده في ضوء انسداد الأفق وعدم رؤية ضوءٍ في نهاية النفق. وقد جدّد الاستعصاء القاتل الذي يخيّم على المشهد السياسي أسئلة الوجود والمصير على خلفية سلوك النظام وسياساته التي لا تشير إلى تغيير في المقاربة والتوجّه، فما زال ردّ فعله العنيف على تظاهرات المواطنين المحتجّين على سلوك رئيس فرع الأمن السياسي في محافظة درعا، عاطف نجيب، خيارَه الوحيد، وتوسّعه في استخدام العنف بكل الوسائل المتاحة، بعد أن قاد ردّه العنيف على متظاهرين سلميين إلى خروج تظاهرات تضامنٍ مع أهالي درعا في محافظات سورية عديدة، رافعين شعاراتٍ مصوغةٍ بلهجة درعاوية “درعا حنّا معاك للموت”. وأدّى التوسّع في استخدام العنف إلى تواتر الاحتجاجات وتناميها وتحوّلها إلى ثورة شعبية عارمة شملت جميع المحافظات.
جاء رد فعل النظام على التظاهرات السلمية عنيفا، لأنه لا يرى أن من حقّ الشعب التعبير عن رأيه وإرادته، فليس من حقّ الشعب في عُرفه الاعتراض على سياساته، ولا المطالبة بتغييرها أو المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن أخطائهم؛ فذلك تجرّؤ على الهيبة المطلقة التي سعى إلى إرسائها لتأبيد حكمه. وهذا ما أكّده ردّ فعله على اتساع نطاق التحرّك الشعبي ضد سياساته وشمول التظاهرات معظم المحافظات السورية؛ وعجز قواه الذاتية على مواجهة الموقف؛ بتسليم سورية لإيران وروسيا، ووضع مصير البلاد ومستقبل أجيالها بيد قوى خارجية لها أهدافٌ ومصالحُ لا تتفق بالضرورة مع تطلعات الشعب السوري ومصلحته الآنية والمستقبلية؛ مع أنه كان قادرا على تلافي حصول الثورة بالاستجابة لمطالب معتدلة نقلت إلى قيادته.
مع أولى التظاهرات الشعبية، أطلق النظام روايته للحدث، وقامت على زعمين متناقضين: أن هدف التظاهرات إقامة إمارة إسلامية، وأن التظاهرات وليدة مؤامرة كونية على نظامه الممانع. الغرض الداخلي للزعم الأول تخويف أبناء الأقليات الدينية والمذهبية لضمان تأييدها، أو حيادها، أما الغرض الخارجي فاستثمار المناخ الدولي المعادي للحركات الإسلامية، على خلفية تنفيذها عملياتٍ إرهابية في عدة دول، لقطع الطريق على التعاطف أو الدعم الخارجي لثورة شعبية. والغرض من الزعم الثاني إنكار وجود مبرّر داخلي للتظاهر، واستدراج تأييد قوى إقليمية ودولية تعارض التغيير بدفع خارجي.
جسّدت رواية النظام طبيعة خياره في مواجهة مطالب شعبية محقّة، خيار أساسه رفض الإصلاح وإجراء أي تغيير في بنيته وسياساته، مهما كان ضئيلا، ومهما كانت نتائج الرفض وتبعاته السلبية على الدولة والمجتمع. رواية هدفها تبرير استخدام العنف ضد مواطنين مدنيين خرجوا في تظاهراتٍ سلميةٍ دعما لمطالب معتدلة تتعلّق برفع يد أجهزة المخابرات الثقيلة عن أعناق المواطنين، ورفع حالة الطوارئ والإفراج عن معتقلي الرأي، وما يؤكّد صحة هذا الاستنتاج عدم ظهور حركات أو جماعات إسلامية تنادي بإقامة دولة إسلامية طوال السنة الأولى من عمر الثورة الشعبية، حتى أن عدنان العرعور، الذي استخدم النظام اسمَه لوصم الثورة بوصف المتظاهرين بالعراعرة، سبق ودان التظاهرات في رسالة مصوّرة بثت على عدة محطات تلفزيونية عربية؛ واعتبرها محرّمة إسلاميا، لأنها خروج عن طاعة ولي الأمر. كما أكّد النظام صحة هذا الاستنتاج بإطلاقه عشرات الإسلاميين من سجونه ومعتقلاته، بمن فيهم قيادات وكوادر خطرة، كي يدفع إلى حصول ما يبرّر زعمه.
أما زعمه الثاني، المؤامرة الكونية، فليس أقلّ تهافتا من زعمه الأول، حيث كانت مواجهة المؤامرة الخارجية، في حال وجودها أو توقّعها، تقتضي قطع الطريق عليها، عبر إزالة أي سببٍ أو مبرّر يمكن أن يدفع قوى محلية إلى الانخراط فيها، أولا. وحشد كل طاقات الدولة والمجتمع في مواجهتها، ثانيا، وهو عكس ما فعله باستخدامه القوة العارية وتدميره حياة المواطنين وممتلكاتهم وتشريدهم في كل بقاع الأرض وتفكيكه الدولة والمجتمع بتمزيق كيانه ووحدته الوطنية، ما كان لمؤامرة كونية، مهما عظمت، تحقيقه. لو كان الأمر مؤامرةً كونية، كما في هذا الزعم، لكان الردّ المنطقي والعملي هو التوجّه لداخل السوري واحتواء أسباب التوتر والاحتقان بإزالة أسباب الشكوى من المظالم والغبن الذي يمكن استثماره من القوى الخارجية التي تتآمر على البلاد، أو الوعد بذلك في الحد الأدنى، وتعزيز تماسك الشعب وحشده في مواجهة المؤامرة الكونية المزعومة، لكنه السلطان والتشبث بالصولجان الذي جسّده شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي كتبه موالو النظام على الجدران في الشوارع الرئيسة للمدن السورية.
لقد أحدث انفجار ثورة الحرية والكرامة هزّات زلزالية وارتدادات محلية وإقليمية ودولية هدّدت بضرب معادلاتٍ سائدة في العمق، معادلات استثمرت فيها قوى إقليمية ودولية كثيرا، ما أثار هواجسها ومخاوفها من التغيير السياسي الآتي على التوازنات الجيوسياسية القائمة، ودفعها إلى التحرّك لحماية استثمارها والتحكّم بتطوّرات الحدث وتداعياته ونتائجه، فقد دعمت إيران توجّه النظام إلى رفض مطالب المواطنين واستخدام القوة لسحق الاحتجاجات. وسعت تركيا إلى إقناع النظام بالاستجابة لمطالب التغيير وإجراء إصلاحات، بما في ذلك إشراك المعارضة في صياغة القرار الوطني. واستثمرت إسرائيل الحدث لتدمير إمكانات سورية مع العمل على عرقلة التغيير، باعتباره كارثيا على مصالحها، ووظّفت نفوذها الدولي للإبقاء على المقتلة والتدمير مستمرّين. ورأت دول في الخليج في الثورة فرصة لإخراج إيران من سورية، وخطرا لاحتمال قيام نظام ديمقراطي في سورية يمكن أن تنتقل عدواه إلى حياضها، فتحرّكت على خطين: الضغط على النظام للابتعاد عن إيران، وتهجين الثورة بمد الحركات السلفية التي تشكّلت بالمال والسلاح والعمل على تحقيقها الهيمنة والسيطرة على الثورة، واستبعاد الخيار الديمقراطي، من جهة، والاستقطاب داخل مؤسّسات المعارضة لصياغة توازن قوى يعيق وحدتها على برنامج محدّد وواضح، عبر بذر مشاريع متناقضة ومتصارعة داخلها.
اعتبرت روسيا إسقاط النظام خسارة جسيمة لوجودها في المياه الدافئة، وخطرا داهما قد يحرّك أحجار الدومينو في محيطها القريب، خصوصا إيران، فاستنفرت إمكاناتها الدبلوماسية والسياسية والخبرات التقنية والعسكرية لدعم النظام وتثبيته، حتى لو أدّى ذلك إلى تفكّك المجتمع والدولة السوريين. أراد الغرب، بجناحيه، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إغراق إيران وروسيا في المستنقع السوري، وعرقلة التغيير في سورية، خدمة لإسرائيل وخوفا من تداعيات انتصار الثورة على دول الجوار (لبنان والأردن ودول الخليج)، وعمل على إنضاج شروط عقد صفقةٍ بين النظام والمعارضة تحت سقف “لا غالب ولا مغلوب”، وإقامة نظامٍ جديدٍ في سورية قائم على المحاصصة بذريعة التعدّدية القومية والدينية والمذهبية والخوف على الأقليات وحقوقها، نظام رخوي ضعيف التماسك وسهل الانقياد أو التفجير، ما يجعل سورية في حالة ضعفٍ بنيويٍّ دائم في مواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية.
قاد الانخراط الإقليمي والدولي في الصراع في سورية؛ وتحويله إلى صراع على سورية؛ إلى تعدّد الخيارات وتناقض المصالح وتعقّدها، وتراجع فرص الحل وامتداد الصراع عبر تغذيته بعوامل الاستمرار. انعكس ذلك سلبا على المجتمع والدولة السوريين، فعلاوة على مئات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين، وملايين النازحين واللاجئين، والدمار الهائل في المدن والبلدات والقرى، وانهيار الصناعة والزراعة وتهتّك البنى التحية والخدمية (مدارس، مستشفيات، كهرباء، مياه، نفط، طرق، جسور) والخسائر الاقتصادية الضخمة، طفت على السطح عوارض ضعف الاندماج الوطني وهشاشة الوطنية السورية، وبرزت الخلافات القومية والدينية والمذهبية وانبعثت الولاءات العرقية والمذهبية والدينية والجهوية، وتباينت الرؤى وتعدّدت الخيارات في المجتمع، وانقسمت بين دعوات ومشاريع متضاربة من الفدرالية إلى اللامركزية الإدارية إلى دولةٍ إسلامية، ومركزية تسلطية إلى دولة مواطنة وديمقراطية ومساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
وقد كان لافتا أن أحزاب المعارضة ومثقفيها تعاملوا مع الحدث ونتائجه الكارثية بانتهازية فجّة، عبر ربط المحصلة المأساوية للثورة بما سموها أسلمة الثورة، وقد تعسّف بعضهم أكثر بربطها بما سماه تسننها. زعمٌ زائفٌ غرضه التهرّب من تحمّل مسؤولية الفشل، فأحزاب المعارضة فشلت قبل الثورة في استقطاب قوى شعبية واسعة، وعلى امتداد الأرض السورية، وبناء أطر وكوادر فاعلة، ما كان سيتيح سهولة العمل على تعزيز الحراك الشعبي وترابطه وتماسكه، وهذا جعلها غير قادرة على رفد الحراك بخبراتٍ وقدراتٍ وازنة وضبط خياراته، ما رتّب تحوّل الحراك الثوري إلى تحرّك محلي ضعيف القدرات؛ ضعيف الخبرات، وفشلت خلال الثورة في التعاون والتشبيك الوثيق بين بعضها بعضا، وزاد الطين بلّة تنافسها ومهاتراتها حول تمثيل الثورة والتحدّث باسمها والسعي إلى التفاوض نيابة عنها.
يثير ادّعاء المعارضة ومثقفيها بمسؤولية الأسلمة عن فشل الثورة أسئلة محرجة: لماذا فشل العلمانيون والديمقراطيون في قيادتها، وهل كانت الثورة ستنتصر لو قادوها، وماذا كانوا سيفعلون في مواجهة استخدام النظام القوة العارية، وماذا كانوا سيفعلون مع قوى الثورة المضادّة في الإقليم التي تحرّكت لإجهاض ثورات الربيع العربي أو توجيهها وحرفها عن سياقها الثوري، ومع القوى الإقليمية والدولية، التي انخرطت في الصراع على سورية تحقيقا لمصالحها الخاصة، ما قاد إلى التغطية على السبب الأصلي لانفجار الثورة: نظام قمعي وفاسد وقوى مجتمعية تسعى إلى الحرية والكرامة، خصوصا وأن طرفي الصراع المحليين هما الأضعف في معادلة الصراع؛ وأن الأطراف الإقليمية والدولية قادرةٌ على السيطرة على تطوّرات الحدث وتوجيهه أو عرقلته وحرف الثورة باتجاه خططها هي وأهدافها ومصالحها.
*نشرت في العربي الجديد في 15 آذار/ مارس 2023.
Leave a Comment