زهير هواري
نحن الآن في ذكرى شهادته السادسة والأربعين. قرابة نصف قرن مرَّعلى رحيله عن دنيانا، غادرنا وتركنا نتخبط في دواخلنا المأزومة، وفي ما حولنا من تفكك وهوان. هل نقف اليوم لنجدد رثاءنا له، أو لنرثي أحوالنا وما صارت إليه. أما اذا أردنا أن ننتهز المناسبة لنقدم له جردة حساب بما صار إليه لبنان، وما حدث في دنيا بلاد العرب قريبة وبعيدة، فنستطيع أن نكتب مجلداً بمئات الصفحات، نخرج منه بحصيلة واحدة، هي أن تاريخ المرحلة التي انقضت منذ غيابه، قد حكمت لصالح رؤيته الفكرية – السياسية، ورؤاه الثاقبة للخروج من معادلة التكاذب الطائفي والسلم الأهلي الهش وسيادة القمع والتفكك الدولتي الرسمي والمجتمعي على كل بلادنا. أراه الآن يتطلع إلينا من عليائه يرثي لأحوالنا، شاعراً برهافته المعهودة مدى عمق المآزق التي نتخبط بها على غير هدى، إذا ما تابعنا مسيرة الابتعاد عما ساهم في رسمه وإرسائه لنا من خطوط بيانية، معطوفة على تجاربنا المُرة والمريرة.
فارس اللبنانية والعروبة
ودوماً قرأنا كمال جنبلاط القائد والمفكر والسياسي والمثقف والشاعر والرؤيوي فارس الوطنية اللبنانية الصافية والعروبة الديمقراطية الرحبة وشهيدهما. فقد رفض بالكلمات والنضال المثابر، وبالدم المسفوح أن يقبل بقاء هذا الوطن، وهذه البلاد ملعباً لممارسة سياسات، أقل ما يقال فيها أنها جعلت منها ساحة للاطماع، وصندوقة بريد تبعث بها هذه الدولة وتلك من الدول الاقليمية، والعالمية إلى سواها. وكل منها تسعى إلى تنفيذ سياساتها ودوماً على حساب المصلحة الوطنية والقومية العليا التي تمثل القاسم المشترك لكل اللبنانيين والعرب، الذين باتوا يدركون أن بلادهم مثل كل تلك الدول التي تأسست على أنقاض الحرب العالمية الأولى، قابلة للعيش وتستحق الحياة. وأن وطننا الصغير هذا يملك من مقومات غنى موارد التنوع والتنور الثقافي والتعدد الاجتماعي، ما يستطيع معه الوقوف على قدميه، ومباهاة كل من حولنا من ديار ودول. لكن تحقيق ذلك يتطلب منه أولاً الارتقاء بصيغته السياسية نحو آفاق تستطيع معها أن ترتاد المستقبل، الذي رآه لا يستقيم الا من خلال تجاوز الترسيمات الطائفية – الفئوية لسياسته واجتماعه، وإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية، دولة العدالة الاجتماعية التي تعبر عن مصالح العمال والفلاحين الكادحين، وأصحاب المهن الحرة والطبقة الوسطى المثقفة، وكل من ضاق ذرعا بتلك القيود التي تخنقه في قوالبها الجامدة، والجاحدة لمقدرات هذا الوطن وقدرات مواطنية. ولتلك الكفاءات التي تطالعنا كل يوم في هذه العاصمة العالمية أو تلك بنبوغ باهر في ميادين الطب والعلوم والفنون والآداب والاقتصاد، بينما الوطن ينزف من أبنائه على نحو قاتل.
يحدث هذا فيما وطننا يغرق تحت وطأة العجز عن متابعة الحد الأدنى من انتظام حياته السياسية والاقتصادية والقضائية. فلا رئيساً للجمهورية ولا حكومة ذات صلاحيات، ومجلس نيابي يدور على نفسه في مدار القوى الطوائفية المهيمنة ذات الأجندات الخارجية، مع استثناءات لا تستطيع تعديل صورة العجز في المشهد العام. أما القضاء فيتم منعه من فك طلاسم نهب أموال المودعين ومقدرات البلد، وإماطة اللثام عن جريمة المرفأ وما خلفته من ضحايا ومصابين وأضرار. والحصيلة أننا نتخبط في مستنقع – أو جهنم – دون أن ننجح في مغادرة أوحالها. بل الأصح دمائها. نظام طوائفي متماسك رغم انقساماته الشكلية لا يستطيع معها القيام بالحد الأدنى من بديهيات تسيير أمور البلاد العادية عبر المؤسسات والإدارات، التي على كل منها أن تؤدي دورها كما هو مقرر في الدستور والقوانين.
الاصلاح والخروج على النظام
لقد أدرك كمال جنبلاط ومنذ وقت مبكر أن لا أمل لهذا الوطن بالخروح على أحكام نظامه القاهر من خلال تركيبته الطائفية، التي شارك ردحاً من الزمن في آلياتها واكتشف أعطابها وعيوبها، محاولاً عقلنة مساراتها ودفعها نحو العصرنة ومجاراة مسيرة التقدم الانساني. ولعل تجربته الاصلاحية مع فؤاد شهاب وقبل ذلك عبر تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي هي محاولة بناء مداميك صلبة، وإرساء مقومات وطن يستطيع فيه الناس ممارسة حرياتهم وفردياتهم، والتعبير عن حقوقهم ومصالحهم خارج احكام القيد الطائفي. حاول كمال جنبلاط مرة ومرات أن يشق لهذه الدولة، وهذا المجتمع طرقاً مغايرة لما هو سائد، قبل أن يخرج عليه يائساً من إمكانية اصلاح عيوبه، باعتباره نظام هيمنة وسيطرة طائفية – طبقية تتغلغل في أساسات بنيته وتشل فاعليته. الآن نقول للمعلم لقد انتقلنا من نظام الطائفية إلى نظام الطوائف في ما يشبه الفيدرالية أو المجلس العشائري أو “اللوي جرغا ” الافغانية على حد توصيف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد كمال جنبلاط يوماً، حيث يملك كل زعيم فيه حق النقد والنقض. وهكذا ندور على أنفسنا عاجزين عن تجاوز العثرات، فيما الاوضاع بلغت حدود الكارثة على كل صعيد وفي كل ميدان. ما عسى المعلم وهو يمسح الدم ، دمه براحة يده عن مواضع رصاصات الجريمة التي اغتالته، بينما يرى زعماء لبنان يتبارون في استمرار دوامة التعطيل والشلل الذي لا ينتهي، وحكومة لا تستطيع أكثر من جعل حياة اللبنانيين اليومية أشد استحالة، قياساً إلى كل ما مرَّ عليهم من مآس وويلات. ماذا يقول للعمال العاطلين عن العمل، أو العاملين بما يشبه السخرة حتى، ولا يستطيعون تأمين طعامهم وأسرهم وحليب اطفالهم. لعل افتتاحية “الأنباء” التي قد يخرج بها علينا هذا الاسبوع ستكون عن هؤلاء الشباب المنتحرين الذين نطالع خساراتهم يومياً، داعياً إياهم إلى البقاء في خندق الأمل، والنضال من أجل دفن هذا المسخ الغريب المسمى النظام الطائفي بمحاصصاته وتراتبياته القديمة والمحدثة، لصالح بناء المواطنية المتحررة من الأثقال التي تحبس أنفاسهم وتحكم عليهم بالاختناق.
كان كمال جنبلاط بما ورثه، من أركان النظام، وأحد أعمدة الكيان كما كان يصفهم ميشال أبو جودة ، أعمدة ينهض عليها بنيان البلد، لكنه بعد أن أدرك استحالة الاصلاح من الداخل استل سيف الخروج عليه بالممارسة، من خلال قيادة التظاهرات دعماً لمزارعي التبغ وعمال غندور وفلاحي عكار وصيادي صيدا، ومن خلال طرح الفكر البديل المنفتح، عبر تجميع القوى في اطار البرنامج المرحلي للحركة الوطنية، معطوفاً قبلاً على لقاء ثم تجمع الاحزاب والشخصيات والقوى الوطنية، وبالنضال المثابر مع رفاقه في المجلس السياسي محسن ابراهيم وجورج حاوي، ومع حشد من قادة الاحزاب المتنوعة والشخصيات وألوف المناضلين والكوادر ثانياً من الشمال وحتى الجنوب مروراً بالجبل والبقاع وطبعاً العاصمة، وعبر الممارسة السياسية التي جاهدت من أجل الخروج من قوقعة المذهبيات وحسابات وموازين القوى الطائفية ثالثاً … لكن تلك المحاولة ارتطمت بهذا الجدار السميك من الرفض الداخلي والمحيط. لقد دفع كمال جنبلاط حياته ثمنا لتلك المحاولة التي أرادت أن تجعل لبنان وطنا ديمقراطنياً علمانياً لمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، رغماً عن وساوس الطوائف ومحاصصاتها المعلومة والمجهولة، حيث كل زعامة منها تنتظرالدعم والإسناد من الخارج، لتعيد رسم المعادلات لصالح استمرارها الصنمي ونفوذ المتحلقين حولها. وكما كان كمال جنبلاط ديمقراطياً ، كان علمانياً متجاوزاً إحداث تعديل جزئي على تلك المادة الدستورية وهذا القانون وذاك، لصالح نسف الصيغة السياسية الطائفية عبر إلغاء الطائفية السياسية من قمة الهرم، وتكريس التمثيل السياسي والاجتماعي المتجدد والنسبي على حساب الحصص الطوائفية المقدرة في النظام ، بما فيه ما تمخض عنه اتفاق الطائف، حيث شاهدنا نظام مناصفة بثلاثة رؤوس، ثم بتمثيل له طوابق مؤلفة من طوائف كبرى وصغرى، ووزارات أساسية وثانوية ، ووظائف فئة أولى وأخيرة، مفرزة لذوي الحظوة من القادرين بقوة السلاح وغيره على إنتزاعها مما لاعلاقة له بالكفاءة والنزاهة والحاجة.
حلقات الحروب التدميرية
لقد رأى كمال جنبلاط بعينه الثاقبة مبكراً أن بقاء هذا النظام على ما هو عليه لا بد وأن يقود إلى استمرار الدوران في حلقة الحروب الاهلية المقفلة، والمفتوحة على الخراب الناجم عن اختلال في مفهوم الوطنية اللبنانية الجامعة، التي تهتز كلما طرأ تغير على موازين القوى، لأسباب داخلية أو خارجية. والداخلي منها يتمثل بمشاريع طوائفية تستقوى بعديدها وسلاحها وما لديها من نفوذ خارجي، للهيمنة على الدولة والمجتمع وحجز إمكانية نهوضهما وخروجها من حال الانهيار والتفكك. لذا جاء المشروع الوطني الذي عبر عنه برنامج الحركة الوطنية المرحلي – رغم ما اعتراه من إلتباسات طائفية – خطوة في اطار العمل على إعادة بناء دولة تتخلص من ترسيمة الطائفية السياسية الاقطاعية الممسكة بزمام الأمور، والتي تعيد انتاج نفسها دوماً دون أي اعتبار للكلفة التي يدفعها المجتمع جرَّاء هذا القيد على تطوره الثقافي والمادي والحضاري. لقد أدرك كمال جنبلاط ورفاقه في قيادة الحركة الوطنية أن أمام لبنان خيار واحد وحيد قوامه علمنة العلاقات بين مكونات المجتمع سياسياً ووظيفياً، بدل بقاء كل فئة أسيرة الحسابات الطائفية الفئوية، ما يجعلها محكومة دوماً وأبداً وعلى نحو مؤكد، بل حتمي للانفجار والتشظي وانحلال المقومات وشلل المؤسسات كما نشهد اليوم، وبالتالي خسارة ما راكمته البلاد من تطور في شتى المجالات.
لقد وأد التدخل السوري والاجتياحات الاسرائيلية المتواصلة والنهوض الطوائفي بأشكاله ومنوعاته، المشروع والتيار الوطني الديموقراطي الذي قاده كمال جنبلاط. هذا التيار الذي حاول بعد رحيل قائده متابعة حضوره، تارة عبر اعلانه انطلاقة نضال جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال والغزو الصهيوني للبنان صيف العام 1982 دفاعاً عن وحدة تراب الوطن وتحريره ومن أجل الديمقراطية في علاقات مكوناته، أو سواها من محاولات عملت على استحضار قوى المجتمع الحية من نقابات وعمال وموظفين وأصحاب دخل محدود. أما سلطات الهيمنة والقوى الطوائفية التي تزعمت البلاد بعد أن خلعت ثيابها الأهلية الميليشياوية، فقد شاركت كل من موقعه في اغتيال كمال جنبلاط مرات كثيرة، عبر تكرار قتل اتفاق ودستور الطائف بدل تطويره، وقبله المشروع الوطني الديموقراطي الذي ناضل في سبيله… تماماً كما حدث من خلال إجهاض مشروع انتفاضة الـ 17 تشرين أول عام 2019، تارة من خلال القمع الرسمي والأهلي العاري والمستتر، وطوراً برفض القبول بأي خطوة أو خطة اصلاحية، ما أوقع البلاد في مزيد من التأزم السياسي والعجز حتى عن انتخاب رئيس وتشكيل حكومة الحد الأدنى. وتفاقم التفكك والانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي إلى ما وصلنا إليه، على مختلف الصعد من السياسي إلى الاقتصادي والثقافي … والآن تبدو الدولة مجرد بقايا يتنازعها ورثةً طوائفيين، أقصى طموحهم هو تشريع المحاصصات، ومعها الافلاس العام والفقر المعمم، وتسليم الثروات للعدو الاسرائيلي ، وتسييب الحدود سواء للتهريب الذي يبدأ بالسلع المدعومة مروراً بالممنوعات على أنواعها، وتوصلاً إلى رهن مصير البلاد لحسابات اقليمية، لا تجد فيها سوى ورقة مساومة تبيعها لمن يشتري، مقابل الاعتراف بحصة لها، أو ساحة لتنفيذ أجنداتها وحساباتها ومشاريعها على حساب قيامة الوطن وأهله.
بيروت 16 آذار 2023
Leave a Comment